سطور جميلة رغم حزنها طالعتها عن الحبيبة بغداد وأحببت أن تشاركني قلوبكم الرقيقة قرائتها ...... دمتم ذخرا لبغداد واهلها
رسائل من بغداد
وتسألني عن بغداد , دمعة العراق الحزينة
فملعب صباك قد صارت مقبرة , لا شيئ غير مقبرة . لاحائط فيها يحمي ظهورنا وأحلامنا من الوحوش الضارية ,صارالموت رديفا لأسمها المحفور في التاريخ ,تتجرعه غصة أثر غصة . لاتدري لماذا تتخاطفها المنون , ولأيما سبب . ما أفظع أن يحاصرك الموت المجاني وانت لم تلتقط أنفاسك بعد , مابين ديكتاتورية بشعة و حصار أعمى وحروب متوالدة خاسرة ؟
حسرتنا التي تغتصب الوجوه وحزننا الذي بات يطلع حتى من بين الأصابع ..
يزيدهما التماعا هذا الصيف القائظ الذي يصفع وجه أيامنا بلا رحمة , تشعر في كل ظهيرة أن القيامة على الابواب فعلا , كل ظهيرة هي بمثابة كوة صغيرة على جنهم .. كيف تتحالف شياطين الظلام مع هذي الشمس السادية ,التي كنا نتغنى بضفائرها الذهبية ؟ أراها أحيانا في منامي , ترتدي ثياب الثور المجنح الذي يحمي عرش الملك الاشوري ... معاذ الله ان اشترى ذباحونا ذمة الشمس أيضا ؟
خبرني , كيف هي السماء عندكم , هل تبدو مسالمة رضية ؟ علامها ماعادت تمطر علينا بغير الرزايا , لم أبصرنا العالم فخلع قلبه وأرتدى صخرا , كيف يستميت هكذا بمحاربة شعبا أعزل وأجداث خاوية الا من ركام خيباتها ؟ أية سخرية نزقة وعدالة حمقاء يقترفها بحقنا هذا الزمان الخرف : أن ينضح حزنه في العتمة وحيدا وحد الممات , هذا السومري العتيق , وهو من أكابر صناع الفرح والضوء والحياة ..؟
*******************
مابين موت وموت , حرب مجنونة واخرى اكثر جنونا , خنادق غرزت أنيابها مديدا في لحمنا , وخنادق أخرى لم تطق سماع صهيل جراحنا طويلا ... نسمع هنا عن غرائبيات تثير فينا العجب : ان تزور جيرانك بعد التاسعه مساء , ان تتفقد صديق في الجانب الاخر من المدينه , ان تستطيع تعداد أحبائك الذين يتساقطون يوميا بلا حساب ... أرجوك لا تظننا معدمين تماما , فلنا أنشغالاتنا ايضا : كرنفالات حز الرؤوس , مهرجانات تثقيب الاجساد , مونديال الاختباء من القتله المستمر منذ أن علق معلمهم الاكبر في اذاننا لغة الرصاص وعلمنا السير على حبل السكوت المر .. ومثلما ترى فأن جلها غارقة في فنتازيتها وسورياليتها , غير أنها تظل اختراعات , مختومة بعبارة صنع في أرض الفناء التي كانت صنوا للبقاء
بلا شك , تساوينا اخيرا مع أهل بوركينا فاسو وكهوف تورابورا ,حين عرفنا
الستلايت والموبايل , صارت هذه الدنيا المترامية الاطراف , والتي لا أخالها تسع كل انكساراتنا , تلتئم أمامنا بكبسة زر .. أنما أحسب بمقابل كل ستلايت في منزل من منازلنا أو موبايل بيد أحدنا , فأن روح عراقية فاضت الى بارئها , أما تفخيخا بجثث جبناء أغراب أو قتلا بنيران اميركيه " صديقة " ؟ .. نحمد المولى كثيرا , اننا وسط هذه االقتامة الأشد من العمى , قد عرفنا شيئا ملائكيا جميلا , هو الأنترنيت , اذ لولاه كيف لك أن تقطف بين حين وحين عناقيد خوفي , وبأي الطرق ستسافر اليك مناديل دمعي وبطاقات شجوني ؟
***********************
كثيره هي المفارقات عندنا , لعل احداها هذه الايام , الاخبار التي تناقلتها فضائيات قميئة عن ترشيح بغداد لأن تكون عاصمة للثقافة العربية عام 2009 .. !!
على من يكذبون , وهل سيبقى أحد حيا في بغداد حتى ذلك العام , في حمأة العذاب والرعب والتوحش الذي يخجل منه جنكيزخان وتيمورلنك وهولاكو أجمعين ..؟ ثم اي عاصمة للثقافة هي بغداد ؟ وقد ضاع صوتها , فيما يجلجل صوت القتلة والسماسرة والمهرجين وأدعياء الثقافة ,لا شيئ سوى حافات الموت حملتها لنا سرف الدبابات الامريكية , لا شيئ غير الفوضى والفجائع واللصوصية السافرة .. لانزال نقتسم مع الارصفة بقايا كرامتنا وجمر الظهيرة , لنبيع كتابا أو أثنين , ندفع بها لساعات غائلة الجوع عن صغارنا ..
بغداد بعد 3 سنين من نزول اليانكي , وبدأ ديمقراطية المفخخات والذبح والعمامات القاتلة .. لازالت كما هي تبيع كتبها وقرطاسها , ضمن الاشياء الكثيرة التي باعتها في هذا الزمن الذي اصابه جنون البقر الامريكي .. نفائسها من الكتب وذخيرتها من الوثائق , تباع بثمن بخس , ربما كيلو من الخبز المر أو رطل من اللحم المغمس بالدم والذل والدموع
البارحة رأيت روحه تشوى بهدوء على رصيف فقير في شارع المتنبي .. واحد من نقاد العراق الذين يشار لهم بالبنان , ممن كانوا يزهرون في أرض السواد مثلما تزهر بساتين النخيل وبيارات البرتقال .. أخبرني باستسلام مريع انه فقد ابنه الاكبر اثناء الحرب مع ايران , وفقد الاخر بعد سنه من دخول الامريكيين , لكنه مع كل كتاب يبيعه من مكتبته , يستعيد اجواء موتهم من جديد , يكفنهم من جديد .. فهل تحسبه مثلي طوباويا , اذ في هذا الخراب الابدي , هل ثمة شيئ ذو بال يستحق الحيازة سوى الحياة ..؟
**********************
ودعنا قبل ايام صديقين جديدين , رقمين اخرين في كم خساراتنا الهائلة , هل تراهما خسارة فعلا , أم أن عمرا جديدا قد كتب لهما بعيدا عن الوطن - المَحرقة ؟ !!!
أرتحل نبيل , صديقنا المحامي الذي كان يفتخر بأن جده حمورابي اهدى للبشرية أول مجموعة قوانين مدونه في التاريخ . سافر مطعونا في الخاصرة والشفتين والذاكرة , اذ لم يتحمل قطع راس ابن اخيه , عامل التنظيف في بغداد ..!! اية مقاومة زانية : أن يترك الامريكي , المدجج بالسلاح على الرصيف المقابل , ويذبح عامل النظافة الفقير , ربما لان "دمه الرافضي النجس" , أوثق قربانا لرضوان الله وحور جنانه الخالدات؟ !!!
سافر ايضا صديقنا عراق .. أو تتذكره , ذلك المهندس الدافئ الجميل ؟ ذهب وهو يتأبط بقايا قلبه الذي كان قمرا من الصبوات لايأفل , ربما ليشتغل عامل بناء في احدى الدول المتهالكة المجاورة , تعلقت أمه باذياله عند الباب , صارخة بأن أبنائها الكثر ماعادوا سوى صور على حائط .. لكنه أشاح بوجهه عنها متمتما بعدم قدرته بعد الان على جر أغلال فقره وفواجعه التي لا تنتهي , ومواسيا أياها بأنهم سيرسمون بدل كل مغادر للوطن صورة لأرباب الالم والهة العدم ..!!
التحق عراق بسرب الطيور المذعورة التي غادرت أعشاشها , تاركة دمعة باردة على خد بغداد , بينما حبيبته , ذبلت زهورها كذبول دجلة , ربما لفرط الانتظار ,فلا يصلها كل عيد حب سوى بضع جثث , مشفوعة من " فالنتاين " بخطاب أعتذار
أنفرطت هكذا بغير تماهل , حبات قلبي , سوسنة بعد سوسنة .. تركتني وحيدا مثل قطرة مطر . اشعر وسط متاهات الجنون هذه بأنني اضيع مثل نملة .. يومئني أصدقائي من بعيد : ان تعال , فالعمر قصير .. أغمض عيني فيتمدد العراق الجريح قبالتي , ويصرخ غوته في رأسي ( كن رجلا , ولا تتبع خطاي ) .. أسال فقط : لو عاش هذا " الغوته " هنا , لو بحثت أحداقه دون جدوى عن اغفاءة امل , لو أبصر كل صروح احلامه وقد اضحت من جديد متاعا للذئاب الرمادية التي كانت تقتل في الزنازين فصارت تقتل في الشوارع , لو حمل في صدره حزن هذا النخيل المذبوح من اقصى الروح الى اقصاها .. فهل سيكون ساديا هكذا و كم سيحتاج من دموع , ليغسل أضلاعه من اليورانيوم المنضب , وأناشيد الحروب , وصور الاحبة الراحلين بلا عودة ؟؟؟
الكاتب
حيدر الواسطي