ايماءات الصامتين
قد يكون لإيماءات الصامتين صوت أعلى من أي صوت، وربما تكون إشاراتهم أبلغ من أي حديث، وربما تكون أنات صدورهم أفصح من أي رسالة...!!.
فليس العجز عن الكلام عجز عن التعبير، وليس العجز عن البوح بمكنونات الضمائر عجز عن استخدام مفردات اللغة، إنما لكل وقت لغته، ولكل حدث حديثه، ولا يدرك ذلك إلا العقلاء الذين تساوت عندهم حالة الصمت مع حالة الكلام، أو الحكماء الذين ينقشون بالصمت أروع الكلمات، ويصنعون بالصمت أجمل المواقف.
إن الكلام مثل الحركة، والصمت مثل السكون، والبشر يحتاجون بين الحين والحين إلى لحظات توقف وسكون لترتيب الأفكار، وتنظيم الخطوات، ولملمة شظايا النفس المبعثرة في متاهات الهوى والبحث عن التافه والمجهول من عرض الدنيا، وهنا يكون الصمت لحظة تجول وتحول، تجول فيما مضى لمراجعة النفس ومحاسبتها، وغربلة المواقف وفرزها، وتصحيح المسار كشأن الأذكياء الذين يتعلمون من سقطاتهم وأخطائهم،
ولقد علمتني الحياة عبر دروسها وتجاربها الشاقة أن الكلام بلا روية كشف للهوية،وبيان لحالة المتكلم، ومن ثم زوال غموضه وتَكَشُّف أسراره، وعليه فلا تعب ولا نصب في استبيان ما أراد أن يخفيه، وهذه أحد دروب السذاجة
هناك من يكره الصمت، لأن الصمت غموض، وحصار الصمت سلوك يتجلى فيه الدهاء حتى يخلع الصمت رداء الغموض
يجب أن نعرف متى يجب أن نتكلم؟، ومتى يجب أن نصمت؟، فليس الصياح والعويل دليل حياة، وليس الرد العشوائي الانفعالي أسلوب دفاع، ومن حكمة الخالق أن خلق لنا لساناً واحداً وخلق لنا أذنين كي نسمع أكثر مما نتكلم، بل ووضع على جارحة اللسان سدَّين، أسنان وشفتين، كي لا تخرج الكلمة إلا نقية هادفة مؤثرة،
وهنا حكمة نطق بها لسان عمر بن عبد العزيز لما سُئل: متى تحب أن تتكلم؟ قال أحب أن أتكلم عندما أشتهى الصمت، قيل له ومتى تحب أن تصمت؟ قال أحب أن أصمت عندما اشتهى الكلام، والمغزى من وراء هذه الحكمة رائع للغاية، خاصة عندما يصدر من صاحب أكبر منصب بدولة الخلافة، فالكلام عند اشتهاء الصمت سوف يكون مغلفاً بالحكمة، ممزوجاً بالتأني،محاطاً بالتعقل، ومن ثم يمضى نحو أهدافه بلا إثارة، والصمت عند اشتهاء الكلام وقار وهيبة، وكبح لجماح مفردات متأججة، ومن ثم تضييق الخناق على بواعث الشر و مكامن التناحر، وعليه فالصمت على طول الخط سلبية مخيفة، والكلام على طول الخط مصيبة مزعجة.
إن اختلاف الرأي وتباين الرؤى أمر طبيعي بين البشر لأنهم هكذا خُلقوا، لكن يجب أن نواجه أنفسنا بعدة أسئلة قبل أن نتحدث عن حق الاختلاف، يجب أن نعلم أولاً لماذا نختلف؟ وكيف نختلف؟ وما هي مبررات الاختلاف؟ وما هي أهداف الاختلاف؟ حتى لا يكون الاختلاف مجرد معارك كلامية جدلية لا تسمن ولا تُغنى من جوع.
مـــنــــــــــقــــــــولــــــ