السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين , وبعد :
فهذا جزء يسير ومهم يتناول شرح سورة الفاتحة من كتاب (من كنوز القرآن الكريم - تفسير آيات من الكتاب العزيز )
للشيخ العلامة عبد المحسن بن حمد العباد البدر - جزاه الله عنا خيرا -
سورة الفاتحة من أعظم السور في القرآن لحديث أبي سعد بن المعلى أخرجه البخاري , وهي مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة :
- توحيد الربوبية
- توحيد الألوهية
- توحيد الأسماء والصفات
فتوحيد الربوبية :توحيد الله عز وجل بأفعاله , كالخلق والرزق والإحياء وغير ذلك من أفعاله سبحانه وتعالى والمعنى ان الله واحد في أفعاله لا شريك له في خلق الخلق وإحيائم وإماتتهم .
وتوحيد الالوهية: توحيده سبحانه وتعالى بأفعال العباد كالدعاء والخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والاستغاثة بالذبح وغير ذلك من أفعال العباد , فانه يتعين عليهم ان يجعلوها خالصة لله , فلا يشركوا مع الله احدا في عبادته فكما انه لاخالق إلا الله ولا محيي إلا الله ولا مميت إلا الله , فإنه لا معبود بحق إلا الله ...
وتوحيد الاسماء والصفات: إثبات ما اثبته الله لنفسه او أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الاسماء والصفات من غير تحريف أو تأويل أو تعطيل , ومن غير تكييف أو تشبيه أو تمثيل . كما قال الله عز وجل :" ليس كمثله شيء , وهو السميع البصير" فإن هذه الآية الكريمة واضحة لدلالة مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات الله عز وجل وهو الاثبات مع التنزيه , ففي قول الله عز وجل ." وهو السميع البصير " إثبات إسمي السميع البصير , الدالين على على إثبات صفتي البصر والسمع لله عز وجل , وفي قوله تعالى : " ليس كمثله شيء " تنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم , فله سبحانه وتعالى سمع لا كأسماع المخلوقين وله بصر لا كأبصارهم , بل إن الآية الاولى من هذه السورة العظيمة مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة , أما توحيد الألوهية فيدل عليه قوله :" الحمد لله " لأن إسناد الحمد من العباد إلى ربهم له عبادة وثناء عليه , وهو من أفعالهم .
أما توحيد الربوبية ففي قوله تعالى " رب العالمين " فإنه سبحانه وتعالى رب كل شيء وخالقه ومليكه , كما قال الله عز وجل :" يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون , الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم , فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون "
وأما توحيد الأسماء والصفات فإن الأية مشتملة على اسمين من أسماء الله , وهما لفظ الجلالة في قوله " لله" والرب في قوله " رب االعالمين " وفي الآية جاء ذكر الرب مضافا , وجاء ذكره في سورة يس مجردا عن الإضافة في قوله :" سلام قولا من رب رحيم "
والعالمون هم كل من سوى الله , فالله سبحانه وتعالى بذاته وأسمائه وصفاته هو الخالق , وكل من سواه مخلوق , قال الله عز وجل عن موسى وفرعون : " قال فرعون وما رب العالمين , قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين "
و " الرحمن الرحيم " اسمان من أسماء الله يدلان على صفة من صفات الله هي الرحمة , والرحمن من الأسماء التي لا تطلق إلا على الله , والرحيم جاء في القرآن على إطلاقه على غيره , قال الله عز وجل في نبيه محمد على الله عليه وسلم :" لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم " التوبة : 128 , قال ابن كثير في تفسيره عند تفسير البسملة في أول سورة الفاتحة : < والحاصل أن من أسماء الله تعالى ما يسمى به غيره ,ومنها ما لا يسمى به غيره , كاسم الله , والرحمن والخالق والرازق ونحو ذلك > .
و " مالك يوم الدين " يدل على توحيد الربوبية , والله سبحانه وتعالى رب كل شيء ومليكه له ملك السناوات والأرض وما بينها , وهو مالك الدنيا والآخرة , قال الله عز وجل :" لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير " [المائدة : 120] , وقال :" تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير "
وقال :" قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون , سيقولون الله قل فأنى تسحرون " [المؤمنون : 89,88] .
ويوم الدين هو يوم الجزاء والحساب , وإنما نص على كونه مالك يوم الدين مع انه مالك الدنيا والآخرة لانه في ذلك اليوم يخضع الجميع لرب العالمين , بخلاف الدنيا فإنه وجد فيها من تكبر وطغى , بل وجد من قال : " أنا ربكم الاعلى " , وقال :" يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري " .
و:" إياك نعبد وإياك تستعين " يدل على توحيد الألوهية , وتقديم المفعول على الفعلين يدل على الحصر , وان العبادة لا تكون إلا لله , وأن الإستعانة فيما لا يقدر عليه إلا الله لا تكون إلا بالله , والجملة الاولى تدل على أن المسلم يأتي بعبادته خالصة لوجه الله مع موافقتها لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , والجملة الثانية تدل على أن المسلم لا يستعين في أمور دينه ودنياه إلا بالله عز وجل .
و " اهدنا الصراط المستقيم " يدل على توحيد الألوهية , وهو دعاء , والدعاء من انواع العبادة , كما قال الله عز وجل :" وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا " [الجن:18] , وهذا الدعاء مشتمل على أعظم مطلوب للعبد , وهو الهداية إلى الصراط المستقيم , الذي يحصل بسلوكه الخروج من الظلمات إلى النور والظفر بسعادة الدنيا والآخرة , وحاجة العبد إلى هذه الهداية أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب , لأن الطعام والشراب زاد حياته الفانية , والهداية إلى الصراط المستقيم زاد حياته الباقية الدائمة , ويشتمل هذا الدعاء على طلب الثبات على الهداية الحاصلة وعلى طلب المزيد من هذه الهداية , قال الله عز وجل :" والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " [ محمد :17] , وقال عن أصحاب الكهف : " إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى " [ الكهف : 13] , وقال :" ويزيد الله الذين اهتدوا هدى " [ مريم : 76] , وفي الهداية إلى الطريق المستقيم سلوك طريق المنعم عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين , وهم الذين جمعوا بين العلم والعمل , فيسأل العبد ربه الهداية إلى الصراط المستقيم الذي تفضل الله به على رسله وأوليائه , ويسأله أن يجنبه طريق أعدائه الذين عندهم علم ولم يعملوا به , وهم اليهود المغضوب عليهم , والذين يعبدون الله على جهل وضلال , وهم النصارى الضالون , والحديث في بيان ان المغضوب عليهم اليهود وأ الضالين النصارى أخرجه الترمذي ( 2954) وغيره , وانظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للالباني – رحمه الله – (3263) , وفيه تسمية بعض الذين قالوا بثبوته من أهل العلم , وقد نقل ان كثير في تفسيره لقول الله تعالى :" يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الاخبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله " [ التوبة : 34] عن سفيان بن عيينة أنه قال :" من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود , ومن فسد من عبادنا , كان فيه شبه من النصارى " .
قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - في كتابه أضواء البيان (1/53) << واليهود والنصارى وإن كانوا ضالين جميعا مغضوبا عليهم جميعا , فإن الغضب إنما خص به اليهود وإن شاركهم النصارى فيه ؛ لانهم يعرفون الحق وينكرونه ويأتون الباطل عمدا , فكان الغضب اخص صفاتهم , والنصارى جهلة لا يعرفون الحق , فكان الضلال أخص صفاتهم , وعلى هذا فقد يبين أن " المغضوب عليهم " اليهود قوله تعالى فيهم : " فباءوا بغضب على غضب " الآية , وقوله فيهم أيضا : " قل هل انبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه " الآية , وقد يبين أن " الضالين " النصارى قوله تعالى :" ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل " .>>
ويتبين مما تقدم ان سورة الفاتحة مشتملة في أكثر من موضع على أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية , وتوحيد الألوهية , وتوحيد الأسماء والصفات , ومن العلماء من يقسم التوحيد إلى نوعين : توحيد في المعرفة والإثبات ويشتمل على توحيد الربوبية والأسماء والصفات , وتوحيد في الطلب والقصد وهو توحيد الألوهية فلا تنافي بين القسمة الثنائية والثلاثية , قال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية
(ص : 42- 43) : << ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله , ونزلت به الكتب نوعان : توحيد في الإثبات والمعرفة , وتوحيد في الطلب والقصد .
فالأول : هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه , ليس كمثله شيء في ذلك كله , كما أخبربه عن نفسه , وكما أخبر رسوله – صلى الله عليه وسلم - وقد أفصح القرءان عن هذا النوع كل الإفصاح كما في أول الحديد وطه وآخرالحشر وأول " ألم , تنزيل " السجدة وأول آل عمران , وسورة الإخلاص بكمالها وغير ذلك .
والثاني : هو توحيد الطلب والقصد , مثل ما تضمنته سورة " قل يأيها الكافرون " و " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " , واول سورة يونس وأوسطها وآخرها , وأول سورة الأعراف وآخرها وجملة سورة الانعام .
وغالب سور القرءان متضمنة لنوعي التوحيد بل كل سورة في القرءان , فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله , فهو التوحيد العلمي الخبري , وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه , فهو التوحيد الإرادي الطلبي , وإما أمرونهي والزام بطاعته , فذلك من حقوق التوحيد , ومكملاته , وإما خبر عن إكرامه لاهل توحيده وما فعل بهم في الدنيا , وما يكرمهم به في الآخرة , فهو جزاء توحيده , وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال , وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد , فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه , وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم ف " الحمد لله رب العالمين " توحيد , " الرحمن الرحيم " توحيد , " مالك يوم الدين " توحيد , " إياك نعبد وإياك نستعين " توحيد , " اهدنا الصراط المستقيم " توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد الذين أنعم عليهم , " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " الذين فارقوا التوحيد >>.
ولعظم شأن سورة الفاتحة واشتمالها على توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته , وعلى طلب الهداية إلى الصراط المستقيم الذي حاجة المسلم إليه فوق كل حاجة , وضرورته إليه فوق كل ضرورة , شرعت قراءتها في كل ركعة من ركعات الصلاة , ففي صحيح البخاري و(756) ومسلم (393) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وفي صحيح مسلم (878)عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه سلم قال : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام فقال اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد { الحمد لله رب العالمين } قال الله :حمدني عبدي وإذا قال { الرحمن الرحيم } قال الله: أثنى علي عبدي وإذا قال { مالك يوم الدين } قال : مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال { إياك نعبد وإياك نستعين } قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " .
ومعنى قول الله في هذا الحديث القدسي :" فإذا قال العبد : " إياك نعبد وإياك نستعين ", قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل " أن الجملة الأولى وهي " إياك نعبد " مشتملة على العبادة وهي لله , والجملة الثانية مشتملة على طلب العون من الله , وأن الله تفضل عليه بأن له ما سأل .
وقد استدل شيخنا الشيخ محمد الامين الشنقيطي بسورة الفاتحة على صحة خلافة أبي بكر رضي الله عنه , فقال في كتابه أضواء البيان (1/51) : <<يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه , لانه داخل فيمن امرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم – أعني الفاتحة – بأن نسأله أن يهدينا صراطهم , فدل على ذلك أن صراطهم هو الصراط المستقيم , وذلك في قوله : " اهدنا الصراط المستقيم , صراط الذين أنعمت عليهم " , وقد بين صلى الله عليه وسلم ان أبا بكر من الصديقين , فاتضح انه داخل في الذين أنعم الله عليهم , الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم , فلم يبق لبس في أن أبا بكر رضي الله عنه على الصراط المستقين , وأن إمامته حق >> .
والحمد لله رب العالمين .
قال ابن القيم : " الشوق إلى الله ولقائه ,
نسيم يهب على القلب ليذهب وهج الدنيا " .