دعونا نقف دقيقة إجلال وتقدير لهذا البطل الأسطوري وربما الخرافي حتى...عاش فرساً أصيلاً فلم يستطع الدهر أن يحنيَ رأسه أبداً، ولم يجثُ على ركبتيه يوماً،استعصتْ صهوته على أقوى وأصلب الفرسان في البلاد.كان له شوط عظيم في ميادين المجد وساحات الفَخَار... لم يكن أي حصان آخر يقدر أن يحصد جوائز السباقات التي يشارك فيها حصاننا الأصيل..ولكن ..ولكن وبعد أن صمد كثيراً،وواجه نكبات الدهر،فهل يرحم الدهر شيخوخته؟ لقد كان الزمان جلاَّداً فقد مشتْ فوقه عربات الوقت الإمبراطورية تقتصُّ من لحمه وراحتْ سيوف الزمن تتشرب من دمه الزكيِّ،إلى أن أصبح كشجرة جرداء نسيها المطر في الصحراء...ورغم هذا وذاك فقد بقي شامخ الرأس ،مقارع السماء ،بالغ النجوم؟ لم يعترف أو يستسلم يوماً للضعف والوهن والتعب،بل وعلى العكس فقد كان دوماً على رأس كل سباق....والآن هل يُودِّع ذلك الماضي العريق ويبيع أمجاده كلها، ويرضى بأن يؤول به المطاف إلى أن يمتطيَ صهوته أبناء الحيِّ وأن يكون دابة المنزل التي يقضي أهل البيت أعمالهم عليها..لمْ يرضَ بهذا أبداً
تناهى إلى مسمعيه أخيراً بسباق عظيم ضجّتْ له المدينة بأسرها،إنه سباق منقطع النظير،لم يُعْرفْ أو يسمع بمثله أحد من قبل،إنه سباق المليون ميل،،رقم كبير جداً. وعلى رغم تعبه ومرضه قرر المشاركة في السباق،وعزم على حصد الجائزة أيضاً .كان الجميع يسخرون منه ويضحكون عليه،ويتهامسون ويقولون أيقدر هذا العجوز الخرف الهرم أن يرفع قدميه عن الأرض كي يشترك بمثل هذا السباق وهنا تنفجر الضحكات،لكنه لم يعطِ لكلامهم أية اهتمام..كان همُّه الوحيد هو الفوز في السباق.وحان الموعد المنشود..وانطلقتْ الأحصنة كلها ،وبعد زمن قصير بدء بعضها ينسحب وبعضها يتعب ويسقط ومن تابع السباق فلم نعد قادرين على رؤيته بسبب غبار أقدام السيد العجوز..وبعد ساعة من الزمن لم يعد في المضمار سوى الحصان العجوز الذي مازال يركض ويركض ويركض،فذاك خط النهاية يتراقص أمام عينيه،سمع صيحات المتفرجين تنادي عليه يكفي يا بطل توقف لقد ربحتَ السباق،لم يهتم بما سمع،همه الوحيد هو خط النهاية الذي يتراقص أمامه..تابع الركض على ذلك الطريق الدامي والصعب، وبدأ التعب والوهن يتسلل إلى عظامه ومفاصله وسرى الضعف في شرايينه،علِم أنه إن لم يتوقف الآن فأنه سيدفع حياته ثمناً لذلك،ومع ذلك لم يتوقف..وفجأة..تراخى جسده الهزيل،وتهادى جسمه كالجثة الطرية،وتهاوتْ، لكنها حاشاها أن تلامس الأرض،مات السيد العجوز،وقبل أن تسقط جثته قررتِ السماء أن تكرِّمهُ على بطولاته كلها،لقد طار محلِّقاً في السماء إلا أن وصل خط النهاية وهناك صهل صهلة النصر الأخيرة،وتابع مشواره إلى السماء صفَّق له الجميع وأقسموا أنهم رأوه عند خط النهاية،يصعد للسماء تاركاً آثار أقدامه تحكي أيام مجده العظيم لكي تحتضنها الأرض ويعانقها التاريخ ويشهد الجميع بأنه عاش أصيلاً ومات أصيلاً...رحمه الله ...رحمك الله يا بطل....