قالَ الامام محمدُ بنُ عليٍّ الباقرُ (ع): دخلَ محمدُ بنُ عليِّ بنِ مسلمِ بن شهابٍ الزهري على عليِّ بنِ الحسين زينِ العابدينَ (ع) وَهُوَ كئيبٌ حزينٌ، فقال لـه زينُ العابدينَ: ما بالكَ مهموماً مغموماً؟
قال: يا بنَ رسولِ الله، همومٌ وغمومٌ تتوالى عليَّ لما امتُحنتُ بهِ من جهةِ حسّادِ نعمتي، والطامعينَ فيَّ، وممّن أرجوهُ، وممّن أحسنتُ إليه، فيخلفُ ظنّي.
فقال له عليُّ بنُ الحسين زينُ العابدينَ (ع): احفظْ لسانَكَ تملكْ بهِ إخوانَكَ.
قال الزهري: يا بن رسولِ الله، إني أُحسنُ إليهمْ بما يبدرُ من كلامي.
قال عليُّ بنُ الحسين (ع): هيهاتَ هيهاتَ، إياك وأن تُعجَبَ من نفسك بذلك، وإياكَ أنْ تتكلمَ بما يسبقُ إلى القلوبِ إنكارُهُ، وإنْ كانَ عندكَ اعتذارُهُ، فليس كلّ من تسمعهُ نكراًَ يمكنكُ لأنْ توسعَهُ عذراً.
ثمّ قال: يا زهريُّ، من لمِ يكُنْ عقلُهُ أكمِلَ ما فيهِ، كانَ هلاكُهُ من أيسرِ ما فيه.
ثمّ قال: يا زهري، وما عليكَ أنْ تجعلَ المسلميَن منكَ بمنزلةِ أهلِ بيتِكِ، فتجعلُ كبيرَهُم بمنزلةِ والدِكَ، وتجعلُ صغيرَهُم بمنزلةِ ولدِكَ، وتجعلُ تِربَكَ منهُم بمنزلةِ أخيكَ، فأيَّ هؤلاءِ تحبُّ أنْ تظلم؟ وأيُّ هؤلاءِ تحبُّ أن تدعوَ عليه؟ وأيُّ هؤلاءِ تحبُّ أن تهتِكَ سترَهُ.
وإنْ عرضَ لك إبليسُ لعنهُ الله بأنَّ لكَ فضلاً على أحدٍ مِنْ أهلِ القبلة، فانظرْ إنْ كانَ أكبرَ منكَ، فقُلْ: قد سبقني بالإيمان والعملِ الصالح، فهو خيرٌ منّي، وإنْ كانَ أصغرَ مِنْكَ فقل: قدْ سبقْتُهُ بالمعاصي والذُّنُوب، فهوَ خيرٌ منّي، وإنْ كانَ تِربَكَ فقل: أنا على يقينٍ من ذنبي، وفي شكٍّ من أمره، فما لي أَدَعُ يقيني بشكّي؟! وإنْ رأيتَ المسلمينَ يعظمونَكَ ويوقّرونَكَ ويبجِّلونَكَ فقل: هذا فضلٌ أخذوا بهِ، وإن رأيتَ منهم جفاءً وانقباضاً عنك، فقل: هذا لذنب أحدثتُهُ، فإنَّكَ إنْ فعلتَ ذلك سَهَّلَ الله عليكَ عيشَكَ، وكَثُرَ أصدقاؤك، وقلَّ أعداؤك، وفرِحْتَ بما يكونُ من برِّهم، ولم تأسفْ على ما يكونُ من جفائِهِم.
واعلم أنّ أكرمَ الناسِ على الناسِ مَنْ كاَن خيرُهُ فائضاً عليهم، وكانَ عنهُمْ مستغنياً متعفِّفاً، وأكرمَ الناسِ بعدَهُ عليهم مَنْ كانَ عنهُمْ متعفِّفاً، وإنْ كانَ إليهِمْ محتاجاً، فإنَّما أهلُ الدنيا يعشَقُونَ الأموالَ، فَمَنْ لم يزاحمْهُمْ فيما يعشقونَهُ كَرُمَ عليهِمْ، ومَنْ لم يزاحمْهُمْ فيها ومكَّنَهمْ منها أو مِنْ بعضِها كانَ أعزَّ وأكرمَ.