إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد من القيم العظيمة في الاسلام العدل الذي هو اساس العمران كما قال ابن خلدون فبدونه لا يكون امن ولا استقرار تابعوا اخواني ما جاء عن تطبيق العدل في الاسلام
مفهوم العدل :
المراد بالعدل : إعطاء كل ذي حق حقه ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ، من غير تفرقة بين المستحقين ولأهمية العدل ومنزلته ، بعث الله رسله وأنزل كتبه ، لنشره بين الأنام ، قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } والقسط : العدل ، وهو قوام الدنيا والدين ، وسبب صلاح العباد والبلاد ، به قامت السموات والأرض ، وتألفت به الضمائر والقلوب والتأمت به الأمم والشعوب ، وشمل به الناس التناصف والتعاطف ، وضمهم به التواصل والتجانس ، وارتفع به التقاطع والتخالف .
وضعه الله تعالى لتوزّع به الأنصبة والحقوق ، وتقدر به الأعمال والأشخاص ، إذ هو الميزان المستقيم ، الذي لا تميل كفته ، ولا يختل وزنه ، ولا يضطرب مقياسه ، فمن رام مخالفته ، وقصد مُجانيته ، عرّض دينه للخبال ، وعمرانه للخراب ، وعزته للهوان ، وكثرته للنقصان ، وما من شيء قام على العدل ، واستقام عليه ، إلاّ أمن الانعدام ، وسلم من الانهيار .
العدل مشعر للناس بالاطمئنان والاستقرار ، وحافز كبير لهم على الإقبال على العمل والإنتاج ، فيترتب على ذلك : نماء العمران واتساعه ، وكثرة الخيرات وزيادة الأموال والأرزاق ، ولا يخفى أن المال والعمل ، من أكبر العوامل لتقّدم الدّول وازدهارها ، بينما في المقابل تكون عواقب الاعتداء على أموال الناس وممتلكاتهم ، وغمطهم حقوقهم ، هي الإحجام عن العمل ، والركود عن الحركة والنشاط ، لفقد الشعور بالاطمئنان والثقة بين الناس .
وهذا يؤدي بدوره إلى الكساد الاقتصادي ، والتأخر العمراني ، والتعثر السّياسي يقول ابن خلدون : [اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ، ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها ، لما يرونه حينئذ من أنّ غايتها ومصيرها ، انتهابها من أيديهم ، وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرّعايا عن السّعي في الاكتساب ، والعمران ووفوره ، ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال ، فإذا قعد الناس عن المعاش ، كسدت أسواق العمران ، وانتقصت الأموال ، وابذعر-أي تفرق- الناس في الآفاق ، وفي طلب الرّزق ، فخفّ ساكن القطر ، وخلّت دياره ، وخربت أمصاره ، واختل باختلافه حال الدّولة]
ب-أنه بغير العدل ، يتحيّن الناس الفرصة ، للثورة على الحكومة الظالمة ، وخلع يد الطاعة عن أعناقهم ، ذلك أن النفوس مجبولة على حبّ من أحسن إليها ، وكره من أساء إليها ، وليس هناك إساءة أشد من الظلم ، وأفدح من الجور ، ولذلك تقوم الثورات كل حين ، وتزداد الانتفاضات هنا وهناك ، لتقويض كابوس الظلم ، ورفع وطأته عن كاهل الشعوب . وما قيام "الثورة الفرنسية" في أوروبا ، والانتفاضة الفلسطينية في الشرق الأوسط ومقاومة التمييز العنصري في أمريكا وجنوب أفريقيا إلاّ صورة معبرة عن فقدان العدل في تلك الأماكن وانتشار الظلم فيها ، فأسفر عن إعلان غضب شعوب المنطقة على الظلم وأهله ، وكراهيتها لأساليب القمع والاضطهاد ، والتعذيب والتنكيل ، والطغيان والاستبداد التي تمارسها السّلطات القائمة في تلك المناطق ضد شعوبها .
طبّق المسلمون "العدل" في أعلى صوره ، بدءًا برسول الله ، الذي حكى عنه القرآن قوله : { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } فقد وضع نفسه في مصاف مرتبة البشر ، ولم يحمله شرفه العظيم للامتياز عن الناس تبريرًا لأخذ حقوقهم من غير وجه حق ، بل كان نموذجًا رائعًا في إقامة العدل ، حتى على نفسه الكريمة رغم كونه نبي الله ورسوله .
فقد رُوى أن « أسيد بن حضير - رضي الله عنه - كان رجلا صالحا ضاحكا مليحا ، فبينما هو عند رسول الله ، يحدث القوم ويضحكهم ، طعن رسول الله في خاصرته ، فقال : أوجعتني . قال صلى الله عليه وسلم : "اقتص" قال : يا رسول الله إن عليك قميصا ، ولم يكن عليّ قميص . قال : فرفع رسول الله قميصه ، فاحتضنه ، ثم جعل يقبل كشحه ، فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، أردت هذا »
وهذا من أروع الأمثلة على العدل ، الذي سيظلّ يعجز عن تحقيقه أعظم الزعماء إنصافًا مع رعاياه عبر القرون والأجيال . ومثال آخر في تطبيق العدل في الإسلام ، عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمير المؤمنين ، الذي لم تزد قيمة شهادته على شهادة غيره من الناس لمجرد كونه أميرًا . فقد روي عنه أنه كان يمر ليلًا - على عادته - ليتفقد أحوالرعيته ، فرأى رجلًا وامرأة على فاحشة ، وجمع الناس وخطب فيهم
ما قولكم أيها الناس في رجل وامرأة رآهما أمير المؤمنين على فاحشة؟ فرد عليه عليّ بن أبي طالب : يأتي أمير المؤمنين بأربعة شهداء ، أو يجلد حد القذف ، شأنه شأن سائر المسلمين . ثم تلا قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ولم يملك أمير المؤمنين إلاّ أن يمسك عن ذكر أسماء الجناة ، حيث أدرك أنه لا يستطيع أن يأتي بباقي نصاب الشهادة وأنه لا فرق في هذا بينه وبين سائر المسلمين .
ومثال آخر : عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - الخليفة الرابع ، افتقد درعه - يوما من الأيام - فوجدها عند رجل نصراني ، فاختصمه إلى شريح القاضي ، فقال عليّ مدعيا : الدّرع درعي ، ولم أبع ولم أهب ، وسأل شريح النصراني في ذلك فقال : ما الدّرع إلاّ درعي ، وما أمير المؤمنين عندي بكاذبٍ . فالتفت القاضي إلى أمير المؤمنين عليّ ، فقال : يا أمير المؤمنين ،
إن النصراني صاحب اليد على الدّرع ، وله بذلك حقٌ ظاهر عليها ، فهل لديك بيّنة على خلاف ذلك تؤيد ما تقول؟ فقال أمير المؤمنين أصاب شريح ، مالي بيّنة ، وقضى شريحٌ بالدرع للنصراني ، وأخذ النصراني الدّرع وانصرف بضع خطوات ، ثم عاد فقال أما أني أشهد أن هذه أحكام الأنبياء ، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه ، فيقضي لي عليه ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، الدّرع درعك يا أمير المؤمنين ، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين ، فخرجت من بعيرك الأورق . فقال علي : أما وقد أسلمت فهي لك وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة ، التي تدلّ على تطبيق العدل في الإسلام في أعلى درجاته ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }