بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
إذا أمعنا النظر في نظام عالم الوجود وسنن الخلق نجد أن ثمة قانونا يحكمها جميعا ويضع كل شيء في مكانه المناسب . ففي جسم الانسان نرى هذا النظام العادل قد ركب فيه بدرجة من الدقة المتناهية بحيث إن أقل اختلال في توازنه يؤدي به الى الإصابة بالمرض ، أوالموت . خذ مثلا ، تركيب القلب ، أو العين ، أو الدماغ ، تجد أن كل جزء فيها قد وضع في مكانه المناسب بكل دقة وبالقدر اللازم . إن هذا التنظيم المناسب العادل لايقتصر وجوده على جسم الانسان ، بل هو سائد في كل أجزاء عالم الخليقة ، أذ :
" بالعدل قامت السموات والأرض "
إن حجم الذرة من الدقة والصغر بحيث أنك تستطيع أن تضع ملايين منها على رأس إبرة ، فتأمل كيف يجب أن يكون تركيبها من الدقة والتنظيم بحيث يمكن لها أن تديم حياتها ملايين السنين . إن هذا ناشئ من العدالة في الحسابات الدقيقة لنظام الالكترونات والبروتونات ، ومامن جهاز صغير أوكبير يخرج عن دائرة هذا النظام العجيب .
فهل الانسان حقا كائن استثنائي ؟ وإنه قطعة سوداء في جسد هذا العالم الكبير الأبيض ؟ وانه لهذا السبب يجب أن يسرح ويمرح حرا ، لا يلتزم بأي نظام ويرتكب مايشاء من ظلم واعتداء ؟ أم إن هناك سرا في هذا الأمر ؟
حرية الارادة والاختيار
الحقيقة هي إن الانسان يختلف اختلافا أساسيا عن سائر الكائنات في عالم الوجود ، وذلك لأنه يملك حرية الارادة والاختيار .
لماذا خلقه الله حرا ، وأوكل اليه اتخاذ القرارات والقيام بما يشاء من أعمال ؟
السبب هو إنه لولم يكن حرا لما استطاع أن يحقق تكامله ، فهذا الامتياز الكبير هو الذي يضمن تكامله الأخلاقي والمعنوي .لو أن شخصا أجبر بالقوة على إعانة المستضعفين والقيام بأعمال أخرى تفيد المجتمع ، فإن هذه الأعمال قد تسير في طريقها ولكنها لن تكون دافعا لهذا الشخص على التكامل الأخلاقي والانساني أبدا . أما إذا قام بعشر تلك الأعمال الخيرة بمحض ارادته يكون قد تقدم بالنسبة نفسها على طريق التكامل المعنوي والأخلاقي . بناء على ذلك ، فإن أول شرط من شروط التكامل المعنوي والأخلاقي هو
امتلاك حرية الارادة والاختيار حتى يقوم الانسان بالسير في هذا الطريق بمحض رغبته وارادته ، لا بالجبر والاكراه ، كما هي حال عناصر الطبيعة الأخرى ، فالله سبحانه وتعالى لم يهب الانسان هذه الهبة العظيمة إلا لهذا الغرض السامي . بيد أن هذه النعمة الكبرى أشبه بالورد الذي يحيط به الشوك ، وهو سوء استغلال الناس لهذه الحرية والتلوث بالظلم والفساد والذنوب . بديهي إن الله تعالى لم يكن يمنعه شيء من أن يعاقب كل ظالم فورا بعقاب يجعله يمتنع عن التفكير بتكرار ذلك ، كأن يشل يده ، أويعمي بصره ، أويخرس لسانه . صحيح إن أحدا ، في هذه الحالة ، لن يجرؤ على استعمال حريته ولن يقرب الإثم طوال حياته ، غير أن هذه العفة والتقوى تكون إجبارية قسرية ، ولاتعتبر مدعاة لافتخار انسان واعتزازه ، بل تكون نتيجة من العقاب الصارم الفوري . لذلك لابد أن يكون الانسان حرا وأن يجتاز الامتحانات التي يقررها له الله تعالى ، وأن لايعاقب فورا ، إلا في حالات استثنائية ، لكي يستطيع أن يكشف عن قيمته في الوجود . إلا أن هناك موضوعا آخر ، وهو إنه إذا استمرت الحال على هذا المنوال واختار كل أحد طريقه ، فإن قانون العدالة الالهية الذي يسيطر على عالم الوجود يتعرض للخطر .
من هنا يتبين لنا ضرورة وجود محكمة ودار عدالة للبشر ، وأن على الجميع الحضور فيها دون استثناء لينال جزاء أعماله بموجب عدالة عالم الخلق . أيصح أن يقضي أشخاص مثل نمرود وفرعون وقارون وجنكيز أعمارهم يظلمون ويعتدون ويفسدون ، ثم لايكون وراءهم حساب ولاعقاب ؟
أيجوز أن يقف المجرمون والمتقون على قدم المساواة في كفة ميزان العدالة الإلهية ؟
أوكما يقول القرآن: ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين , مالكم كيف تحكمون ) و ( أم نجعل المتقين كالفجار ) 0
صحيح إن بعض المجرمين ينالون عقابهم على أعمالهم في هذه الدنيا , أو جزءا من ذلك العقاب , وصحيح إن مسألة محكمة الضمير مسألة مهمة , صحيح أيضا أن نتائج الذنوب والظلم والتعسف تحيق أحيانا بالإنسان نفسه , ولكننا بامعان النظر في هذه الحالات الثلاث ندرك أنها ليست عامة شاملة بحيث تعم كل ظالم ومذنب فينال كل نصيبه من العقاب بما يتناسب وجريمته , وأن هناك الكثيرين الذين يهربون من مخالب عقاب محاكمات الضمير ونتائج أعمالهم , أو لاينالون من العقاب مايكفي 0
فلأمثال هؤلاء , ولكي تكون هناك محكمة عدل عامة لمحاسبة الناس حتى على مقدار رأس الابرة من العمل الحسن أو السيء , تقام محكمة العدل يوم القيامة , وإلا فإن مبدأ العدالة لايمكن أن يتحقق 0
بناء على ذلك فإن القبول " بوجود الله " و " عدالته " يستدعي القبول بالبعث ومحكمة يوم القيامة , ولايمكن الفصل بين هذين أبدا 0
وصلى الله على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين