بسم الله الرحمن الرحيم
من عرين السادة المتقّين والأمراء الصالحين أشرق نور الطهر والقداسة، وفي بيت لا شيء فيه من حطام الدنيا وزخرفها، وفيه من التقى والصلاح كل شيء، أبصرت السيدة زينب عليها السلام النور في هذا العالم لترى فيه ومن حولها رسول الهداية للبشرية وحماة الرسالة علياً وفاطمة، وأخويها ريحانتي رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسيديّ شباب أهل الجنة.
فاستقبلت الحياة بأعباء الرسالة وهمومها ومشاكلها التي كلّفت النبي صلّى الله عليه وآله الكثير من التضحيات، وما كان منها إلاّ أن شاركت بكل جدارة في تحمّل المسؤوليات الجهادية التي أولاها اللّه عزّ وجلّ لأهل هذا البيت الطاهر.
وفي الوقت الذي كانت فيه دعوة النبي صلّى الله عليه وآله في الصدر الأول للإسلام عاصفة تزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة من أرباب الشجرة الخبيثة والملعونة حيث إستطاعت الدعوة الثبات والمواجهة ضد كل محاولات القضاء عليها في مهدها، شاءت الأقدار أن تعايش السيدة زينب عليها السلام وتواكب كل الأحداث والمصائب التي تعرّض لها الإسلام بدءً من عصر رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وما تركته وفاته من بصمات أليمة ألقت بظلالها على التاريخ مروراً بحياة أبيها وأمّها وجهادهما، إلى وقفتها في كربلاء وما جرى فيها من أحداث.
ولم تكن واقعة كربلاء مجرّد حدث عابر في حياة السيدة زينب بقدر ما كانت عنواناً ندخل منه إلى العديد من المواقف التي عبّرت من خلالها عن صرخة الضمير علَّها بذلك تنقذ ما تبقّى منه في عقول المسلمين ونفوسهم التي تلوّثت وتدنّست برذائل الخبث والكيد الأموي الحاقد على الدين وأهله.
لذا كان لمواقف السيدة زينب عليها السلام في كربلاء وخطاباتها في المرحلة التي تلتها الأثر الكبير في حفظ الثورة الحسينية وحمايتها وإيصال صوتها إلى مختلف أرجاء العالم الإسلامي الذي إستفاق على صوت زينب وهي تحاول إيقاظه من سباته العميق، وأبرز هذه المواقف كانت في أرض كربلاء، ومن ثمّ الكوفة وفي مجلس ابن زياد وفي قصر يزيد بن معاوية في الشام إلى حين رجوعها إلى المدينة.
فما هو الدور الذي قامت به؟ وما هو الأثر الذي أحدثته مواقفها وخطاباتها في تلك الحقبة من الزمن؟
عندما نراقب مجريات الأحداث بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام ونلقي نظرةً على ما حدث في هذه الأماكن الثلاثة، وبالتحديد مواقف وكلمات السيدة زينب عليها السلام نكتشف مدى الصدى الواسع الذي ألقته في ذلك المجتمع المهزوم حيث تحوَّل ذلك إلى مجتمع ملتهب ضدّ الحكّام الظالمين المتمثّلين ببني أميّة.
هذا مع الأخذ بعين الاعتبار الحالة التي كانت عليها، والمصيبة التي حلّت بها وبالهاشميات من آل بيت النبي صلّى الله عليه وآله، فهي التي شاركت الإمام الحسين عليه السلام في مصائبه، وانفردت عنه بالمصائب التي رأتها بعد شهادته والنهب والسلب والضرب وحرقِ الخيام والأسر.
وفي قراءتنا لهذه المواقف نلاحظ ما يلي:
في الكوفة:
عندما رأت السيدة زينب الناس يتباكون ويتعاطفون (التعاطف الملعون) صاحت بهم لتعلّمهم أنَّ البكاء وحده لا ينفع بل لا بدّ من التعبير بغير البكاء والصياح لرفض ظلم الأمويين، وفي نفس الوقت أرادت أن تشعرهم بمسؤوليتهم الكبيرة تجاه ما حصل وممّا قالته: " أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل (الخداع) والغدر... أتبكون؟ " .
وكان لخطبتها الأثر الكبير في نفوس الكوفيين وهزّ ضمائرهم التي كانت مخدّرة، بالإضافة إلى موقفها من أهل الكوفة عندما وصل إليها ركب السبايا واجتمع أهلها للنظر إليهنّ ومحاولة تلك المرأة الكوفية التصدّق عليهنّ...
في مجلس ابن زياد
حاول الطاغية ابن زياد التهجّم على أهل بيت النبوة الأطهار، والشماتة بما حصل لهم في كربلاء، فكان ردّها قاسياً وعنيفاً ولم تأبه بحالة الأسر والمعاناة التي كانت تلاقيها في ذلك المجلس الذي دخلت إليه وهي متنكرة رغم جلال النبوة وبهاء الإمامة المنسدل عليها. وكان في ضمن ردّها على شماتة ابن زياد: " ما رأيت إلاّ جميلاً. هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم..." وهو تعبير عن حالة الرضا والتسليم المطلق للّه عزّ وجلّ.
في الشام
سمعت العقيلة زينب يزيد بن معاوية يتمثّل بأبيات من الشعر لابن الزبعري وفيها:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلّوا واستهلوا فرحاً
ثم قالوا يا يزيد لا تشل
فكان جوابها عليها السلام:
" الحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على رسوله وآله أجمعين صدق سبحانه حيث يقول: " ثم كانت عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا..." أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول اللّه سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد... "
وهذه الكلمات بيّنت من خلالها للناس الغافلين عن حادثة كربلاء وعن السبايا حيث كان اعتقاد أهل الشام أنهنّ من المارقين عن الدين، بيّنت لهم الحقائق، وأجلت لهم المواقف وفضحت أفعال يزيد وجرائمه التي ارتكبها بحق أهل البيت عليهم السلام.
لذا كان من الواضح جداً أنّ ما فعله يزيد بن معاوية لم يلاقِ من أهل الشام إلاّ زيادة الحبّ له لولا دخول موكب السبايا إلى الشام والفضيحة التي تعرّض لها من خلال مواقف الإمام السجاد والسيدة زينب (عليهما السلام).
في المدينة
نظراً لاستفحال الأمور في الشام حيث دوّت أصداء الجريمة الأموية في أرجاء الشام، عند ذلك لم يجد يزيد بُدّاً وخوفاً من الفتنة وإنقلاب الأمر عليه من إخراج موكب السبايا إلى المدينة موطنهم الأساس.
وقبل الدخول إلى المدينة أمر الإمام زين العابدين عليه السلام بضرب الخيام عدّة أيام، ليدخل إليها بعد أن يكون قد أحدث ضجة وهزّة وسط الناس الذين اجتمعوا إثر ذلك حول الإمام والعقيلة زينب، وهذا ما أفسح لهما في المجال لمخاطبة الناس والحديث إليهم عمّا جرى في كربلاء، وكان من أهم آثار ذلك ثورة المدينة بقيادة عبيد اللّه بن حنظلة (غسيل الملائكة).
ومما يكشف لنا عن الخطر الذي شكّله دخول السيدة زينب إلى المدينة على الحكم الأموي، رسالة والي المدينة عمرو بن سعيد الأشدق إلى يزيد والتي يقول فيها:
" إن كان لك بالمدينة شغل فأخرِج ابنة علي منها، فإنّها قد ألّبت الناس عليك "، وهكذا إستطاعت السيدة زينب عليها السلام من خلال مواقفها وخطاباتها وجرأتها أن تُكمل مسيرة الحسين عليه السلام، فكانت الكلمة الواعية إستكمالاً لعطاءات الدم والجهاد التي بدأت في كربلاء.