(يَمحُو اللهُ ما يَشاءُ ويثبِت وعندَهُ أُمُّ الكتاب ).
((إنّ الدعاء يرد القضاء، ينقضه كما ينقض السلك، وقد أبرم إبراماً)).
((ادع الله عزّ وجلّ، ولا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه)).
في الحديث عن موضوع الدعاء، وعن الاستجابة وتغيير الأمور، ورفع ما قدّر، ودفع ما قد يقع من الأمور والحوادث التي تحل بالإنسان; من المحن والشدائد، والحوائج، والذنوب.. الخ.
في الحديث عن ذلك كلّه، لابدّ لنا من أن نتحدّث عن علاقة (القضاء والقدر)، وعن علاقة (علم الله وإرادته) بالاستجابة للدعاء، ونبيّن كيف يصح تغيير الأمور ورفعها وإبطالها بعد تقديرها في قضاء الله، وتقرير وجودها، وحصولها في علمه، وهل يترتّب على ذلك التغيير نتائج عقيدية تؤدي إلى القول بتغيير علم الله، وبطلان قضائه وقدره وفق مشيئة الإنسان، وبالتالي تغيير مشيئة الله..؟
وكيف يغيّر الله الحوادث بعد إبرامها..؟
هل كان يجهل ما هو صالح من الأمور، ولم تتّضح له إلاّ بعد الدعاء، وشكوى العبد من مرارة البلاء؟ وهو المنزّه عن ذلك..
أو أن أفعاله تعوزها الحكمة والاتقان فتأتي مضطربة تحتاج إلى تصحيح وتسديد؟ وهو المنزّه المتعال.
إنّ كثيراً من الناس الذين يجهلون حقيقة العلاقة بين قضاء الله وقدره، وعلمه بالاُمور والحوادث من جهة، وبين تغيّرها من حال إلى أخرى، أو رفعها وإبطالها من جهة أخرى، يثيرون زوبعة من الشكوك والغبار حول الدعاء، ويتوهّمون تغيّر علم الله تعالى، وإرادته..
فيكون لله تعالى مع هذا التغيير ـ كما يتصوّر هذا الفريق من الناس ـ علمان وإرادتان:
علم وإرادة سابقة على التغيير، وهما اللذان ثبّتا تقدير الشيء على حالته الاُولى، وعلم وإرادة حين التغيير، وهما اللذان أحدثا التغيير، والتبديل الجديد، بعد حالته الاُولى.
وهذا يعني بالنتيجة أنّ علم الله سبحانه وإرادته متناقضتان، وقاصرتان عن تحقيق خير الوجود، ودقة نظامه.
ولتصحيح هذا المفهوم، وردّ هذه الشبهة، لابدّ للإنسان المسلم من أن يفهم:
أولاً ـ إنّ تغيير الاُمور بإبدالها، أو رفها عن الإنسان، بسبب الدعاء لا يعني تبعيّة إرادة الله لإرادة الإنسان، ولا يعني بطلان القضاء والقدر، لأنّ تغيّر الحوادث يجري أيضاً وفق قضاء وقدر ناسخ للقضاء والقدر الأوّل، فهما قضاء وقدر واحد في تقدير الله ومشيئته، وما التعدّد والفاصل الزمني إلاّ أمر مرتبط بذات الحوادث الجارية في عالم الإنسان.
ثانياً ـ لا يعني تغيّر الأشياء والحوادث بسبب الدعاء، تغيّر علم الله، ذلك لأنّ الله سبحانه بحكمته، ولطفه، ورحمته بعباده، قد جعل بقضائه وقدره أيضاً وسابق علمه دعاء الداعي عند، وقبل، وبعد، نزول البلاء به، أو انقطاع حوائجه عنه، سبباً لكشف البلاء، أو غفران الذنب، أو قضاء الحاجة.
فسببيّة الدعاء بهذا الاعتبار جزء من قضاء الله وقدره، وليس خارجاً عنهما، أو متعارضاً معهما ـ أي أنّه حقيقة مقدّرة في قضاء الله لدفع ما قدر، شأنها في القضاء شأن بقيّة الحقائق التي وقعت على الإنسان.. كالحاجة، والمرض، والمحنة،.. الخ.
ولكشف غوامض هذا الموضوع فلنقرأ الآيتين الآيتين مشفوعتين بإيضاح وتفسير من قبل الحديثين المرويين عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع): والآيتان هما: (.. وَمَنْ يَتَوَكَّل عَلَى اللهِ فَهْوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللهَ بالِغُ أمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيء قَدْراً )(الطّلاق / 3) .
(.. صُنعَ اللهِ الّذي أتْقَنَ كُلَّ شَيء، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفعَلون ) (النمل / 88) .
ففي الآية الاُولى نقف على حقيقة هامّة في قضاء الله وتقديره. فهو سبحانه، قد جعل لكلّ شيء في عالم الموجودات قدراً من الزمان والمكان والوجود والمكونات والنتائج والغايات.. الخ، يناسبه ويحقق الحكمة والمصلحة من وجوده، وإنّه سبحانه مدركه، ومحقّقه، ولا يمكن أن يفوته، أو يعجزه تحقيقه.
والآية الثانية تلقي مزيداً من الضوء على الآية الاُولى (صُنع الله الّذي أتقن كلّ شيء )، فكلّ شيء حسب منطوق الآية هو متقن، وليس هناك من ثغرة، أو نقص، أو عبث، أو جهل، في هذا الوجود.فحياة الإنسان، وما يجري عليه من الأمور ـ وفق منطوق الآيتين ـ (مقدرة ـ متقنة)، وهي من أمور الله التي يجب أن يحققها بعد أن يثبت صلاحها في علمه وحكمته.
(إنّ الله بالغ أمره ) وليس لشيء أن يتمرّد على إرادة الله أو مشيئته. وقد أمدّنا القرآن بشواهد ونماذج واقعية من دعاء الأنبياء، واستجابة الدعاء لهم بعد وقوع البلاء بهم، وتغيير الحوادث والوقائع: (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فاستَجَبنا لَهُ فَنَجَّيناهُ وَأَهلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيم ) (الأنبياء / 76) .
(وَأيّوب إِذْ نادى رَبَّهُ أنّي مَسَّني الضُّرُّ وَأنتَ أرحَمُ الرّاحِمين * فاستَجبنا لَهُ فَكَشَفنا ما بِهِ مِن ضُرّ وآتيناه أهلَهُ ومِثلَهُم مَعَهُم رَحمةً مِنْ عِنْدِنا وذِكرى للعابدين ) (الأنبياء / 83 ـ 84) .
(وذا النّونِ إذ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إلهَ إلاَّ أنْتَ سُبحانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ الظّالمين * فاستَجَبنا لَهُ وَنَجَّيناهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذلِك نُنْجي المؤمنين )(الأنبياء / 87 ـ 88) .
(وَزَكَرِيّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرني فَرداً وَأنتَ خَيرُ الوارِثين * فاستَجَبنا لَهُ وَوَهَبنا لَهُ يَحيى وَأصلَحنا لَهُ زَوجَهُ.. ) (الأنبياء / 89 ـ 90) .
فهذا العرض القرآني الصريح يكشف لنا بوضوح تام، العلاقة السببية بين الدعاء وتغيّر الحوادث والوقائع الجارية في دنيا الإنسان.. وإنّ كلّ هذه الحقائق تجري وفق الحقيقة الكبرى التي عبّر عنها الوحي الإلهي بقوله: (.. لِكُلّ أجَل كِتابٌ * يَمحُو اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتاب) (الرّعد / 38 ـ 39).
فالله يغيّر ويبدّل الأمور والحوادث بمشيئته، ووفق إرادة وقضاء محكم مترابط التقدير، وليس هدماً طارئاً للقضاء والقدر، الذي ثبت بحكمة الله ومن غير تقدير، أو علم إلهي مسبق.
أمّا الحديثان اللذان يوضِّحان أنّ الدعاء إنّما يقع سبباً وفق قضاء الله، لتنفيذ ما أراد الله وقضى بخفي علمه ولطفه، من تغيير الحوادث والوقائع التي ستحدث لهما: ((إذا أُلهِمَ أحَدُكُم الدُّعاءَ عِنْدَ البَلاء فاعلَموا أنَّ البَلاء قصير)).
((إنّ الله عزّ وجلّ لَيَدفَع بالدّعاء الأمر الذي علم أنّه يدعى له فيستجيب، ولو لا ما وفّق العبد من ذلك الدعاء لأصابه منه ما يجتثه من جديد الأرض)).
وبالتأمل بنص هذين الحديثين، والتدقيق بهما والوقوف عند العبارات ((أُلهِم))، ((الأمر الذي علم أنّه يدعى له فيستجيب))، ((ولولا ما وفق العبد)).. وبالوقوف عند هذه العبارات، نجد أنّ الإلهام المنّة عليه واللطف به، فقضى بحكمته أن يلهمه الدعاء ويوفقه إلى المسألة بكشف الضرّ عنه، فيكشف عنه ضرّه، ويجيب له طلبته تعبيداً للإنسان، وإشعاراً له بحاجته إلى الله سبحانه، وبفضل الله ولطفه به.
وبذا يتضح لنا أنّ علم الله وقضاءه لا يتناقضان مع الدعاء، وأنّ التغيّر في الأحداث والوقائع التي تجري على الإنسان إنّما تجري وفق علم مسبق بحدوث الشيء وبتغيّره، وإنّ هذا التغيير جرى على أساس من قاعدة السببيّة الجارية على كلّ حقيقة في عالم الإنسان.
وإنّ العلم الإلهي والقضاء والإرادة محيطتان بهذا التغيير وسابقتان له ولا شيء يكون جديداً أو متعارضاً مع قضاء الله وعلمه.
فالله يعلم بالحوادث، وبتغييرها، وعلى أساس هذا العلم كان القضاءك قضاء بوقوع الحوادث، وقضاء يجعل الدعاء سبباً للتغيير، وقضاء بالتغيير.