تصوير: محمد الصوافجوانب مختلفة لضريح سيدنا العباس(عليه السلام)
الباب التي تظهر خلف المكتبة تؤدي إلى سرداب قبر سيدنا العباس كما يظهر ايضا نهر العلقمي في داخل السردابقبر سيدنا العباس في السرداب الواقع تحت الضريح المبارك
يشكل عبق الأجواء والمناخات الروحية والإيمانية في مدينة كربلاء المقدسة معلماً بارزاً وميزة تنفرد بها المدينة عما سواها من المدن العراقية الأخرى، حيث ضريح الامام الحسين، ويقابله ضريح أخيه العباس (عليه السلام)، وعلى مرمى حجر منهما تل الزينبية، وهو مزار للسيدة زينب (عليها السلام) شقيقتهما. وفي أطراف المدينة تمتد القبور على مساحات شاسعة من الأرض.. أضف إلى ذلك أن هناك عدداً كبيراً من المساجد والحسينيات التي تؤدي دوراً فاعلاً ومهماً في إحياء المناسبات الدينية، ونشر وإشاعة ثقافة أهل البيت (عليهم السلام). ولعل ذلك يبدو واضحاً وجلياً إلى حد كبير خلال شهر محرم الحرام، وخلال شهر رمضان المبارك أكثر من أي وقت آخر.
وقد أضفى الطابع الديني للمدينة ومناخاتها الروحية قدراً كبيراً من الثراء الثقافي والقدرة على التعاطي والتعامل مع أناس من مشارب ومستويات وانتماءات وثقافات مختلفة.
وفي ظل تلك الأجواء والمناخات الروحية، كان لضريح سيدنا العباس (عليه السلام) خصوصية جعلته يمثل مأوى وملاذاً لأصحاب الحوائج.
وهناك عوامل عديدة جعلت الرابطة الروحية بين الناس والعباس (عليه السلام) من خلال ضريحه المقدس في كربلاء، ذات طابع خاص إذغ صح التعبير. ومن تلك العوامل أن الطريقة التي استُشهد بها العباس كانت في واقع الأمر طريقة مأساوية هزت وما زالت تهز مشاعر الملايين من الناس، وفي الوقت ذاته فإن التضحية والإيثار اللذين أظهرهما العباس من أجل إعلاء كلمة الدين ومساندة أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) والدفاع عن حرائر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسعيه إلى إنقاذ الأطفال والنساء بجلب الماء إليهم بأي وسيلة، كل ذلك جعل منه ثائراً وبطلاً قلّ نظيره في التاريخ. ويمكن للمرء أن يلمس مدى ذلك الارتباط الروحي والتعلق العاطفي والوجداني في يوم السابع من شهر محرم الحرام، الذي يوصف بأنه يوم العباس (عليه السلام)، وكذلك عند قراءة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) صبيحة يوم العاشر.
ولعل الزائر عندما يدخل إلى صحن العباس (عليه السلام) يطالع عبارة: "السلام عليك يا قمر بني هاشم".. ولا شك في إن لتلك العبارة معاني ودلالات عظيمة، بصرف النظر عمن هو قائلها. وقمر بني هاشم واحد من ألقاب عديدة للعباس (عليه السلام).
والملاحظ إن زوار مدينة كربلاء وزوار العباس (عليه السلام) ليسوا من العراقيين فحسب، بل إنهم يأتون من أقطار وبلدان مختلفة. وهم ليسوا من أبناء الطائفة الشيعية فقط، بل من أبناء الطائفة السنية وطوائف إسلامية أخرى. إذ هناك كرامات كثيرة للعباس (عليه السلام) يتناقلها الناس فيما بينهم، ولعل من بينها شفاء كثير من المصابين بأمراض استعصى على الأطباء علاجها. وإن تناقل روايات كثيرة عن تلك الكرامات الإلهية على ألسنة الناس، دفع أناساً مسلمين من غير أبناء الطائفة الشيعية، أو من غير المسلمين أصلاً، للتوجه إلى ضريح العباس (عليه السلام) إما لطلب الشفاء لمريضهم، أو لكشف غم أو هم ألم بهم. وهكذا فإن القدسية التي يحظى بها هذا الرجل جعلته يحتل مكانة قريبة جداً إلى مكانة الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
وما يكشف جانباً مهماً من تلك القدسية، أن معظم الناس يتجنبون كثيراً أن يقسموا كذباً بالعباس، لأن لديهم قناعة واعتقاداً راسخاً بأن أذى سيلحق بهم جراء فعلهم هذا. وقد نقل لنا عدد من سدنة الروضة العباسية المباركة بعضاً من الكرامات التي شاهدوها ولمسوها خلال عملهم هناك منذ عدة أعوام.
وكذلك فإن الناس يأتون إلى الضريح المقدس للعباس (عليه السلام) في ظل مشاعر تمتزج فيها عوامل الرهبة والوجل والخوف بآفاق الأمل والتفاؤل واليقين وصدق الاعتقاد، ويخرجون منه ونفوسهم وقلوبهم منشرحة بعبق أجواء المكان الروحية والمعنوية، ليتوجهوا إلى الضريح الآخر المقابل له، لينهلوا منه المزيد.
العباس هو ابن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأخو سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) وحامل لوائه يوم عاشوراء. والعباس في اللغة بمعنى أسد الغابة الذي تفر منه الأسود.
أمّه فاطمة الكلابية التي اشتهرت في ما بعد بكنية أُمّ البنين، وقد تزوّجها الإمام علي (عليه السلام) بعد استشهاد فاطمة الزهراء (عليها السلام).
ذكر أنّه ولد في 4 شعبان عام 26 للهجرة بالمدينة، وهو أكبر أبناء أم البنين الأربعة الذين استشهدوا في كربلاء بين يدي الإمام الحسين (عليه السلام). وعند استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) كان العباس في الرابعة عشرة من عمره، وفي كربلاء كان له من العمر 34 سنة.
كنيته أبو الفضل وأبو فاضل ومن أشهر ألقابه: قمر بني هاشم، وساقي العطاشى، وحامل لواء الحسين، وحامل الراية، وأبو القربة، والعبد الصالح، وباب الحوائج و . . . إلخ.
تزوّج العبّاس من لبابة بنت عبيد الله بن العبّاس (ابن عمّ أبيه)، ولد منها ولدان اسمهما عبيد الله، والفضل. وذكر البعض أنه له ابنين آخرين اسماهما محمد والقاسم.
كان العباسي طويل القامة جميل الصورة، ولا نظير له في الشجاعة، وقد سمي بقمر بني هاشم لحسنه وجماله. وهو حامل لواء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم العاشر، وساقي خيام الأطفال والعيال. وكان يتولّى في مخيم أخيه إضافة إلى جلب الماء، حراسة الخيم والاهتمام بأمن عيال الإمام الحسين (عليه السلام).
وعلى بعد ثلاثمائة متر تقريباً من مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) يوجد مرقد أبي الفضل العباس (عليه السَّلام)، في روضة مستقلة،<B>ولم يكن الإمام يأذن بالحرب له ويستبقيه للقيادة فلما وجد الإمام وحيداً أصر على الإمام مستأذناً للقتال، فقال الإمام: (أنت صاحب لوائي)، فقال العباس: فداك روحي يا أخي فقد ضاق صدري من الحياة، فقال الحسين: فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء، فخرج العباس وخطب فيهم ووعظهم، ثم قال: يا عمر بن سعد هذا الحسين ابن بنت رسول الله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء فقد أحرق الضمأ قلوبهم، وهو مع ذلك يقول: دعوني أذهب إلى الروم أو الهند وأُخلي لكم الحجاز والعراق، فلما انتهى من كلامه وقد أثر كلامه في الجيش، وأخذ يلعن بعضهم بعضاً فصاح شمر، يا ابن أبي تراب، لو كان وجه الأرض كله ماء وهو تحت أيدينا، لما سقيناكم منه قطرة إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد، ثم رجع العباس إلى الحسين وهو يسمع صراخ الأطفال من العطش، فأخذ قربته وحاربهم حتى وصل إلى الماء فملأ القربة وحملها متوجهاً نحو الخيام وأحاط به الأعداء من كل جانب ورموه بالنبال حتى صار درعه كجلد القنفذ من السهام، فكمن له زيد بن ورقاء من ورائه وقطع يمينه وهنا ارتجز (عليه السَّلام) يقول:
والله إن قـــــــطعتمو يـــــمــــيني إني أُحــــــــامي أبـــــداً عـن ديني
وعــــــن إمام صــــــادق اليـــقين نجل النـــــــبـــــــي الطاهر الأمين
يؤكد على أن اندفاعه إنما هو عن الدين والإسلام وإمامه الإمام الحسين (عليه السَّلام) في الحقيقة يمثل الإسلام، وقاتل حتى ضعف ثم أصاب القربة سهم وأُريق ماؤوها وجاء من ضربه بعمود من حديد فانقض عليه الحسين (عليه السَّلام) فوقف عليه منحنياً وقال أخي، الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي، ولعل الحسين لهذا السبب لم يحمله إلى المخيم وبقي مرقده الشريف منفصلاً عن الشهداء، وهو كما قال الشاعر:
أحـــــق النــــــاس أن يــبكى عليه فتى أبكى الحســـــــين بكــــــربلاء
أخـــوه وابـــــــن والـــــده علي أبـــــو الفـــــضل المضرج بالدمــاء
مرقد العباس (عليه السلام)كما قلنا يقع هذا المرقد الشريف على بعد 300م من الجهة الشرقية من حائر الإمام الحسين (عليه السلام) وصاحب المرقد أبو الفضل اكبر أولاد أم البنين (عليها السلام) والرابع من أبناء الإمام علي (عليه السلام) والملقب بالساقي وقمر بني هاشم وصاحب اللواء.
ويعود تأسيسه للثاني عشر من محرم عام 61 هـ، حيث حفر بنو أسد قبور كل من الإمام الحسين والشهداء الذين استشهدوا في واقعة الطف ودفنوا فيما يلي رجلي الإمام الحسين، أما العباس (عليه السلام) فقد دفن في موضع قتله على المسناة بطريق الغاضرية وقبره عامر وظاهر.
لقد لقي مرقد العباس من الرعاية والعناية ما يلقاه مرقد أخيه الحسين، ومن المرجح أن يكون المرحوم محمد حسين الصدر الأعظم الاصفهاني هو الذي قام بتشييد بناء الروضة العباسية الحالية، وذلك سنة 1246هـ.
وتولى توسعة واعمار مرقد العباس كل من تولى تشييد صرح الروضة الحسينية في الأدوار المتعاقبة، من ملوك وأمراء ومحسنين.
وفي سنة 271هـ وفي عهد السلطان عضو الدولة البويهي شيدت عمارة الروضة والقبة وبسنة 1032هـ أمر الشاه طهماسب الصفوي تزيين قبة المرقد بالقاشاني وبنى شباكا على الصندوق ونظم الرواق والصحن وبنى البهو وجهزه بالفراش الثمين وبعده أمر الشاه صفي الصفوي باحكام منائر المشهد وأحدث 4 منائر صغيرة في زوايا الصحن وبسنة 1155هـ أهدى نادر شاه للحرم تحفا كثيرة وزينه بالقوارير وبسنة 1227هـ أمر السلطان القاجاري فتح علي شاه بتجديد بناء المرقد بعد نهب الوهابيين وعمرت القبة بالقاشاني وبعده أمر محمد شاه بن عباس بصنع شباك فضي للضريح.
وبسنة 1355 هـ جدد السيد مرتضى سادن الروضة الباب الفضي في الإيوان الذهبي للحضرة وكتب على المصراعين قصيدة للشيخ اليعقوبي وبسنة 1375 هـ تم تذهيب قبة المرقد الشريف.
وقد أمر المرجع السيد محسن الحكيم يومها بنصب شباك ذهبي على القبر صنع في اصفهان وجلب إلى العراق في احتفال كبير شهدته المدن العراقية المجاورة مع إيران.
وقد تعرض هذا المقام الشريف إلى اعتداء أثيم من قبل النظام البعثي أيام الانتفاضة الشعبانية المباركة وقصفت القبة المقدسة بأسلحة النظام.
وتعتبر معالم الروضة العباسية ذات روعة وجمال خلاب أسوة بالروضة الحسينية وتبلغ مساحتها بما فيها الصحن نحو 4370 متر مربع وأرضها مفروشة بالرخام، والجدران مكسوة بالمرايا وكذلك الرواق والاواوين الكبيرة والمنائر الشاهقة والقبة العالية والصندوق البديع على القبر وبشباكه الرائع المصنوع من الذهب والفضة الخالصين بشكل يليق وصاحب المقام الذي له مكانه خاصة في نفوس المسلمين ونقشت على القبة الذهبية العالية آيات قرآنية مطعمة بالذهب وبجوارها مئذنتان ضخمتان وساعة أثرية دقاقة وكبيرة.
وتضم جوانب الصحن غرف وأواوين دفن فيها علماء وسلاطين وشخصيات إسلامية وزين الصحن بالفسيفاء والقاشاني البديع وللصحن 8 أبواب هي باب الإمام الحسن وباب الإمام الحسين وصاحب الزمان وموسى بن جعفر وأمير المؤمنين وعلي بن موسى الرضا والرسول المسماة بباب القبلة وباب الإمام الجواد، ويبلغ ارتفاع القبة عن سطح الأرض 39م وارتفاع المنارة 44م، ومساحة الصحن 9300م، أما مساحة الحرم المطهر تبلغ 1836م.
وفي سنة 236هـ أمر المتوكل العباسي بهدم مرقد الحسين وأخيه العباس وسقى موضع القبر بالماء حيث حار الماء حوله ومنع الزائرين للوفود إليه، وفي سنة 1047 هاجم العثمانيون كربلاء واحتمى أهلها داخل الحرم فجرت معركة كبيرة بالبنادق وتم سلب ما في المرقد من نفائس.</B>