حروب الخدمات البحرية
وكالة المستقبل العراقية للصحافة والنشر (ومع)
كاظم فنجان الحمامي
ظهرت في حوض الخليج العربي مؤسسات عملاقة, وضعت ركائزها في عرض البحر, وبسطت نفوذها على مسارات الناقلات والزوارق واليخوت وخطوط السفن التجارية المترددة على موانئ الخليج والمحيط الهندي وبحر العرب وخليج عمان, فتسلقت سلم المجد والنجاح, وتربعت على عروش الخدمات البحرية, حتى تفوقت على الكثير من الدول الآسيوية والأفريقية من حيث الموارد المالية الضخمة, ومن حيث القدرات الاقتصادية الهائلة, ومن حيث العلاقات التجارية الواسعة, واخطر ما يميزها أنها تمضي وقتها كله في صراع دائم مع بعضها البعض, وتعتاش من غنائم المواجهات التنافسية الساخنة في حروب الخدمات البحرية المقدمة للسفن, والنصر في تلك الحروب معقود دائما وأبدا لمن يقدم أفضل الخدمات, ولمن يبادر بتوفير أسرعها وأرخصها, ومعقود لمن يمتلك المرونة التعبوية اللازمة لحسم نتيجة الحرب التنافسية لصالحه.
لقد كان الفوز المطلق, حتى منتصف القرن الماضي, من نصيب الشركات البريطانية والأمريكية, التي تسلحت بالخبرات والمهارات, وفرضت هيمنتها الكاسحة آنذاك على الرقعة الجغرافية, الممتدة من قناة السويس إلى ميناء كولومبو في سيلان, ومن قناة (الروكا) في شط العرب حتى رأس الرجاء الصالح, بيد أن التفوق الإماراتي المتنامي, في الفضاءات البحرية المفتوحة, استطاع أن يزيح تلك المؤسسات الغربية, ويجمد نشاطاتها الخليجية, ويبعدها تدريجيا عن مقتربات المحيط الهندي.
فتحت الإمارات جبهتها القتالية في الفجيرة وعززتها بأحدث الأساطيل, وأكثرها كفاءة بوجه التيارات العاتية, ونجحت في رصد تقلبات السوق الخدمية عن قرب, فوضعت الاستراتيجيات والسياسات في أماكنها الصحيحة, ووفرت الخدمات الواسعة للسفن والناقلات على بساط الريح, فسحبت السجادة التقليدية القديمة من تحت أقدام الشركات الأجنبية.
حظيت الفجيرة بتقدير عالمي وسط سوق الخدمات البحرية, وسجلت أساطيلها الخدمية نموا لافتا في العقود القليلة الماضية, وواصلت تقدمها نحو تحقيق التوسع العالمي, لتصبح أهم اللاعبين الكبار في الملاعب الدولية, ومضت قدما في هذا الاتجاه حتى انتزعت المرتبة الثانية من روتردام في السوق العالمية لتجهيز السفن بالوقود, الذي بلغت قيمته (25) مليار دولار, فأصبحت ثاني أكبر مجهز للوقود في كوكب الأرض بعد سنغافورة, ولم يتوقف طموحها عند الحدود الإقليمية, فقررت القيام باقتحام سنغافورة في عقر دارها, وباشرت ببناء منشآتها الخاصة هناك, وتوسعت الإمارات أفقيا وعموديا حتى استحوذت على النشاطات الخدمية السنغافورية كلها, ثم واصلت حصد الانتصارات في سجلات الانجازات البحرية الباهرة, وصارت لها مرافئ وفروع وقواعد في المملكة العربية السعودية, وجيبوتي, والمغرب, وكوريا الجنوبية, واستمرت في مساعيها الحثيثة لاستقطاب وتطوير مهاراتها البشرية, وتحديث ممارساتها من وقت لآخر لتحقيق أعلى مستويات المهارة والأداء, فكانت النجاحات الإماراتية المرموقة هي الحوافز الرئيسة, التي أثارت حفيظة الشركات الإيرانية, وحفزتها على استنفار طاقاتها لخوض غمار الحرب الخدمية, ومحاكاة الإمارات التي صارت هي الدولة الرائدة من دون منازع, فاختارت إيران مرافئ المنطقة الحرة في جزيرة (قشم) لتكون الخندق الأمامي لإطلاق شرارتها الخدمية الأولى, ثم وسعت نشاطاتها في ميناء (بندر عباس), وباشرت باحتكار الخدمات البحرية للسفن المتوجهة إلى موانئها, وتجهيزها بالوقود بأسعار رمزية مغرية, وبالاتجاه الذي يضمن استقطاب خطوط الشحن البحري, ويضمن تحول الموانئ الإيرانية إلى موانئ جاذبة على النمط الإماراتي المتفوق, آخذة بنظر الاعتبار إعطاء الأولوية المطلقة للسفن والناقلات المسجلة تحت العلم الإيراني.
ثم قررت إيران التوسع في خدماتها البحرية على نطاق الخليج العربي, ووضعت هذه الأهداف التوسعية على جداول المشاريع ذات الأهمية القصوى, وتولى (محمد حسين داجمري) مدير عام النقل البحري في عموم الموانئ الإيرانية, مسئولية التنفيذ على ارض الواقع, وكان من مؤسسي شركة الخدمات البحرية الإيرانية, التي مارست نشاطاتها البحرية منذ العام 2007, مبتدئة بعشر ناقلات خدمية لتجهيز الوقود والزيوت, وناقلة عملاقة للتخزين بسعة (35) ألف طن, هي الناقلة (إيران بهشتي), ثم عززت أسطولها بناقلتين ساحليتين سعة كل منها (6500)طن, كانت الناقلة الأولى (سبحان), والثانية (يوشات), وسمحت إيران لقطاعها البحري الخاص بدخول حلبة التنافس, فمنحته سلسلة من الحوافز والمغريات, وفتحت له بوابات العمل الحر على مصراعيها, في موانئ (عسلو), و(بندر إمام), و(خارك), و(بوشهر), وتبنت سياسة تشجيعية غير مسبوقة, تمثلت بتخفيض الرسوم المينائية إلى الحد الأدنى, وإفساح المجال للشركات الخدمية الإيرانية للانخراط في الميدان البحري الحر, ووفرت لها الدعم المطلق من خلال منحها القروض المالية المجزية, ومن خلال منحها صلاحية إقامة الأرصفة الخدمية وبناء الصهاريج والسقائف والمخازن والورش والمختبرات على طول السواحل الإيرانية الممتدة لأكثر من 3400 كيلومتر, وتضمنت الحوافز إعفاء الشركات البحرية الإيرانية من رسوم ضريبة الدخل, وتذليل المصاعب والعراقيل الإدارية التي قد تقف في طريقها, ويقول المهندس (أيوب حسن زادة طبقجي): أن الحكومة الإيرانية تتحمل سنويا (400) مليون دولار لتغطية نفقات وتكاليف الدعم والإسناد والتشجيع, التي توفرها لقطاعها البحري الخاص.
وهكذا يستمر الصراع على أشده في خضم الحرب المفتوحة لتحقيق المزيد من المكاسب والموارد والمنافع, في حين اتخذ العراق موقفا متفرجا, ولم تكلف الدولة نفسها عناء الدخول في حلبة التنافس, ومازالت السفن والناقلات المترددة على الموانئ العراقية تتزود بما تحتاجه من الوقود والزيوت والأرزاق الطرية والجافة من الموانئ الإماراتية, أو تتزود بها من الموانئ الإيرانية, لأسباب وعوامل وظروف يطول شرحها, وربما يستمر الحال على ما هو عليه حتى إشعار آخر