(حكاية أحلام)
و
عروس البحر
: في طفولتي كانت تشدني وتستهويني قصص العفاريت والجن, وبنت الملك وإبن السلطان , حيث كانت جدتي تجمعنا حولها أيام الشتاء الباردة ملتفين حولها كطيور صغيرة, تلتهم بنظراتها الثاقبة فم صغير رسم السنون خطوطه الصغيرة حوله ليشبع خيالنا الصغير.
كانت شهرزادنا الحاكي الليلي الذي يملئ ليالينا سحرا وغموضا, تأخذنا بحكاياتها الى مدن الجن, وتطوف بنا حول كنوز السلاطين والملوك, وترسينا في حدائق غناء وسط بلاد لا يعرف لها إسم ولا يسكنها غير الجان.
كانت كتابا إسطوريا حوى في داخله كل عجائب الدنيا وغرائبها, ولا يستهوينا في تلك الليالي الباردة غير صوت جدتي الساحر العميق, حيث كانت في لحظات تنقلنا من جو الضحك والقهقه الى البكاء ومن الدهشة والإنفعال الى الهدوء.
من تلك القصص التي كانت تحفز خيالي الصغير, هي قصص عروس البحر, ولطالما أبحرتني معها الى أعماق المحيطات في جولات مع تلك الحور, لأعيش حياتهن المدهشة الغريبة الساحرة, وعندما كانت ترى الدهشة في عيوني, كانت تبتسم وتزيد من طريقة تشويقها للحكاية ولن تنتهي الى أن تتثائب الآفواه الصغيرة لتقول (وباجر نكمل القصة).
بقيت تلك القصص الشهرزادية في مخيلتي وذهني.
وكبرت,,,,
كانت قصص جدتي تطوف أحيانا في ذهني عندما يسدل الليل ستائره السوداء ويتحول الكون حولي هدوءا يبعث الإسترخاء وينعش الروح, ويحفز ذاكرتي الى الإبحار مرة أخرى الى مغامرات بنت السلطان وإبن السلطان, وغزل حور البحر وشقاواتهن, وحتى كنت في أحيان أخرى أسمع صوتها يأتيني من بعيد وأنا بين اليقظة والمنام.
وفي إحدى الليالي قالت لي: أحلام هل تعرفين (بان) و(سهر) و(سهير)؟, أجبتها بنعم كانت سهير أعزصديقاتي, قالت تعالي لآخذك هناك الى البحر, قلت الى أين, هل تريديني أن أذهب الى البحر!¬؟ قالت نعم: قلت لا, فأنا أكره البحار فهديرها يدخل الكآبة الى روحي, أحسه وكأنه هدير الموت, قالت هل تتذكرين حكاياتي عن عرائس البحر؟ سأخذك هناك لأريك عرس لعروس البحر!.
تبعتها وكأني أطير معها فلن أحس بقدماي تطأ الأرض أبدا, وأحسست وكأني أطير بجناحين خفيين, الى أن وصلنا هناك الى ساحل البحر, قالت إنظري هناك, وأشارت لي بأناملها الرقيقة, من خلال تلك المياه سترين عالما آخر,غير عالمك وإياك إياك أن تبارحي مكانك, وتركتني لوحدي, وفجأة أحسستُ عيناي وكأنها تخترق صفحات المياه وتذهب عميقا وبعيدا لأرى مايشبه المدينة متجسدة داخل تلك البقعة من البحر, عيناي تسمرت فقط على المركبتين التي زينت بكل ما تحوي البحار من كنوز ولؤلؤ ومرجان, ومن الأعلى كانت تصطف مجموعة من الحيوانات البحرية, التي تشع من خلال جسدها الرقيق ضوءا يغمرالمركبتين بشعاع وكأنه شعاع القمرعند اكتماله بدرا, وعلى جانبي كل مركبة كان صبيان يحملان كل منهما صندوق صغير يبهر النظر لشدة بريقه, وعلى كل صندوق كان تاج يشبه تاج الأميرات.
رأيت بان وسهر بأجمل حللهن, وتحول جمالهن الإنسي الى فاتنات يضاهن الحواري بتلك الفتنة الساحرة, كما كانت تصفهن جدتي الشهرزادية.
كانت بان تجلس مع الأمير في عربتها الساحرة وقد نقش عليها بالمحار, إسمهما بان وحسان, أما العربة الثانية فكانت منقوشة بإسم سهر والأمير ريسان, كانت العربتان تجرهما حيوانات بحرية, رغم صغرها كانت هائلة بقوتها, إبتسمن لي ولوحن بيدهنا من بعيد, ومن مسافة غير بعيدة رأيت سهير كانت سعيدة, ودموعها تتلألأ في عينيها رغم الفرح الذي أضاء وجهها, ناديتها سهير, إلتفتت الى جهة الصوت وكأنها عرفت صوتي, صرخت أحلام! حاولت أن أدنو قليلا لكني أحسستُ بصعوبة تجاوز مسافتي منها, وبقيت هي ملازمة لمكانها أيضا, كانت تبدو وقد تغيرت ملامحها وأصبحت أقل سنا من سنها وأكثر إشراقا.
رجعت ذاكرتي فجأة الى الماضي, لأتذكر....
في تلك البلاد البعيدة التي جمعتني بسهير حيث كان عمرها كعمري وهمومها كهمومي واحلامها كانت كأحلامي, تكونت صداقتي معها,,,,,,
وسارت بنا الحياة........
منحتها الحياة الإمومة بعد فترة غير قليلة من زواجها, وتحقق حلمها الأول بلؤلؤة جميلة أسمتها بان.
بولادة بان تحولت كل فصول الحياة لسهير الى ربيع, وزاد ربيعها الاول ربيعا آخر بعد ان رزقت بمولدة ثانية أسمتها سهر.
بصرخات وزقزقات كطير هارب من الجنان, ولدت سهر, لن تصدق سهير أن هذه الطفلة هي لها فقد منحتها الطبيعة كل الوانها الخلابة, لشعرها الكث, أهدتها الشمس بريق خيوطها الذهبية , ومن زرقة السماء لونت عينيها الصافيتين, وأضاء القمر وجهها الوضاء, ومنحها الورد لون خدودها الوردية ومن جمر الغضى تجمرت شفتاها المكتنزتين.
حملتها لها ملائكة الرحمة وكانت تزقزق كعصفور صغير, تململت شفتاها وحركت رأسها المستدير بحثا عن الرحم الذي حملها, حضنتها سهير لتمنحها الدفئ والطمأنينة في الحياة.
وكبرن البنات .......
خطبت بان لأحد شباب المحله الذي هام بها هياما, وكيف لا يهيم بها!, فوجهها القمري يحيطه ليل ساحر أسدل ستاره على غصن من البان, فتنتها كانت تسكر العقول وتجفل القلوب , وتسبح الكائنات لروؤيتها, ومرت الشهور على خطبة بان, وبدأت الحياة تكشف الوجه الآخر لطبيعتها, وفقد الأب عمله وأصبحت الحياة قاسية لعائلة سهير, وأخيرا قررت العائلة الرحيل الى بلد آخر, فلم يعد في هذا البلد ما يستحق البقاء, فكرت سهير بأبنتها بان, وكيف ستتركها وحيده في هذا البلد الغريب, فالحياة بدون بان مستحيلة, فأما البقاء معا, وأما الرحيل معا والى الأبد.
قررت سهير وبشكل حازم فسخ خطوبة إبنتها بان, رغم توسلات الخطيب بها, فبان بالنسبة له الحياة كلها.
وبعد أيام, قرر يوم الرحيل الى اندونيسيا أولا, ومن ثم الى بلاد اللا عودة!
هناك في ذلك البلد الآسيوي والذي أصبح جسرا للمهاجرين الى العالم الاخر,وهذا البلد تكاثرت فيه عصابات التهريب في كل مكان وزمان ,والذين أثروا من مأس الناس وقهرها, التقت العائلة بعوائل عراقية أخرى, كان الجمع غفيرا ضم كل الأحلام بحياة أفضل من الماضي الذي كانوا فيه.
بسرعة فائقة ملئ المركب بتلك الحشود البشرية حشدا, صرخ البعض أن المكان لا يتسع والمركب حمل أكثر من حمولته المعتادة, أصرت العصابة اللا إنسانية, بأن لا خوف عليهم وعليهم الأمتثال للأوامر وإلا فقدوا كل مادفعوه من مال, ودفعوهم دفعا الى المركب, رغم صراخ بعضهم وتدافعهم مع المهربين, وقررالقبطان أخيرا التحرك رغم صراخ النساء وعويل الأطفال.
تحرك المركب يصارع أمواج المحيط , ونظرات الراحلون شاخصة الى اليابسة مودعة هناك في بلدان شتى كل أحبائها وذكرياتها, راحلة الى المجهول وقد عافت نفسهم كل شئ إلا النجاة والوصول الى اليابسة بسلام.
بدأ المركب يتمايل ميلانا شديدا, وأرتفعت أمواج المحيط صاخبة هائجةً مائجة, جفلت القلوب وتسمرت العيون محدقة في السماء طالبة الرحمة والسلامة, وتعالت أصوات المنكوبين بالصراخ, طالبة النجدة فلا من سميع ولا من مجيب, فالمركب تابع لمجموعة من المهربين, ومن المستحيل أن يستنجدوا بالشرطة, لأنهم خارجين عن القانون.
وماهي إلا دقائق معدودة, حتى أستقر كل شئ في قعر المحيط, وعاد الهدوء القاتل مرة أخرى إلا من تلاطم الامواج, وأنتهت حياة عائلة سهير وعشرات العوائل العراقية في جوف المحيط, ومنذ ذلك اليوم كرهت البحر, فكنت كلما أدنو من الساحل, أسمع صوتها يناديني, ويقول لي أحلام, اشتقت اليك, وأبتعد أبتعد بعيدا..... لأسمع صوتها خلفي يقول احلااااااام.
واليوم ها أنا أراها متجسدة أمامي, لا أصدق ياسهير, لا أصدق إني التقي بك مرة أخرى!
قالت لي: وأنا أيضا, أنظري؟ اليوم زفاف إبنتاي لأميري البحر, بكيت من فرحتي لهن, وأنا أبارك لها الفرحة, حاولت التقرب منها, في هذه اللحظة سمعت صوت جدتي تقول لي وبقوة, علينا الرحيل الآن, رفضت وبكيت, قالت عليك الرحيل الآن, وبصوت أقوى, سمعت صوتها يقول أحلام أحلام...... فتحت عيناي ولازالت الدموع تملئها, لملمت نفسي وبتثاقل فتحت ستائر غرفتي, كانت الشمس مشرقة ووهاجه أكثر من أي يوم مضى والعصافير والطيور تشدو وتزقزق بشكل غير مألوف وغريب, وحديقة البيت تبدو أكثرجمالا, إنه ربيعآ أخر لسهير, فهل تدرك الطبيعة وتحس ما يجول في أعماق المحيطات من خفايا؟!
إنه يوم زفاف عرائس البحر!
*******
د.علي ابراهيم