شاعرنا اليوم هو عنوان للشجاعة ، بل إن شجعان العرب إذا ذكروا ولم يذكر فيهم شاعرنا اهتز عرش الشجاعة ، وحسبك تقديراً لشجاعته أنه
كان قائداً لأحد جيوش دولة بني حمدان الصغيرة التي دوخت الدولة الرومية بانتصاراتها الساحقة عليها والتي حمت دولة الإسلام في أحلك الأوقات التي كانت تعاني فيها الأمة ضعفاً رهيباً؛
بل ويزداد إعجابك بشجاعة شاعرنا وحنكته حين تعلم أنه كان حاكماً للمنطقة الحدودية التي تفصل الروم عن دولة بني حمدان. وقد عاش شاعرنا أربع سنين من عمره أسيراً لدى الروم وقال في سجونهم أعظم قصائده التي يسميها عشاق الأدب " الروميات ".
أما درجة شاعرنا في الشعر فحسبك فخراً له أن يذكر اسمه إلى جانب المتنبي والذي يعلم الجميع أن اسمه مسح إبداعات شعراء عصره ولم يصمد منهم بإزاء عظمة شعر المتنبي إلا عظمة شعر شاعرنا هذا الذي عندما كان يحكي عن والشجاعة فهو كان يصف واقع نفسه
على عكس المتنبي الذي كان يصف واقع غيره. وقصيدة شاعرنا اليوم هي جوهرة رومياته وهي التي حكى فيها قصة أسره وأكثر مايتمثل به الناس من شعره هو من هذه القصيدة. أعتقد أنكم عرفتم شاعرنا ياأحباب! نعم ياأحباب شاعرنا هو أبو فراس الحمداني وكان من قصة أسره التي كانت سبباً لهذه القصيدة أنه خرج يوماً للصيد مع سبعين من أصدقائه وحاشيته
فباغته الروم في ألف رجل تحت قيادة تيودور ، فدافع الشاعر حتى أثخنته الجراح وأصابه سهم بقي نصله في فخذه فوقع أسيراً، فلما وقع في الأسر جادت قريحته بأبدع قصيدة قالها على الإطلاق والتي غطت بروعتها على كثير من شعره الجيد والتي دفعت أحد نقاد الأدب أن يقول "
لو قال أبو فراس عشراً مثلها لنازع المتنبي عرش الشعر" ومن يقرأ هذه القصيدة يعلم لماذا أغرم عدد من عشاق الأدب بهذه القصيدة بل إن بعضهم كان يعتبر أن مما يساعد على تربية الأبناء على كثير من فضائل العرب حفظ قصيدة مثل هذه القصيدة. والآن إلى رائعة أبو فراس التي يقول فيها:
أراك عَصِيَّ الدمع شِيمتك الصبـر
أما للهـوى نهـيٌ عليك ولا أمـرُ
بلـى أنا مشتـاقٌ وعندي لوعـة ٌ
ولكـن مثلـي لايـذاع له سِـرُّ
إذا الليل أضواني بسطت يد الـهوى
وأذللـت دمعاً من خلائقـه الكِبـرُ
تكاد تُضِـيءُ النـار بين جوانـحي
إذا هي أذكتهـا الصَّبـابة والفِكـرُ
مُعللتـي بالوصل والـموت دُونـه
إذا مـِتُّ ظمـآناً فلا نزل القطـرُ
حَفِظـتُ وضَيَّعـتِ المـَودَّةَ بيننـا
وأحسن من بعض الوفاءِ لكِ العـذرُ
ومـا هـذه الأيـام إلاّ صحائـفٌ
لأحرفهـا من كفِّ كاتبهـا بَشـرُ
بنفسـي من الغادين في الحي غـادةٌ
هـواي لها ذنبٌ وبـهجتها عُـذرُ
تـروغ إلى الواشيـن فِيَّ وإن لـي
لأذناً بـها عن كل واشيـةٍ وَقـرُ
بـدوت وأهلـي حاضرون لأننـي
أرى أن داراً لستِ من أهلها قفـرُ
وحاربت قومـي في هـواك وإنـهم
وإيَّاي لولا حُبُّكِ الـماء والـخمرُ
فإن يك ماقال الوشـاة ولم يكـن
فقد يهدم الإيـمان ماشيَّد الكفـرُ
وفيـت وفي بعض الوفـاء مذلـة ٌ
لإنسـانة في الحي شيمتهـا الغـدرُ
وقـورٌ وريعـان الصبا يستفـزُّها
فتـأرن أحيـاناً كما أرِنَ الـمهرُ
تسائلنـي من أنت وهـي عليمـة ٌ
وهل بفتـىً مثلي على حاله نُكـرُ
فقلت كما شاءت وشاء لها الـهوى
قتيـلُكِ قالـت أيُّهـم فَهُم كُثـرُ
فقلـت لهـا لو شئـتِ لم تتعنتـي
ولم تسألـي عني وعندك بي خُبـرُ
فقالت لقد أزرى بك الدَّهر بعدنـا
فقلـت معاذ الله بل أنتِ لا الدهـرُ
وما كان للأحـزان لولاك مسـلكٌ
إلى القلب لكن الهوى للبِلى جسـرُ
وتـهلك بين الهزل والجدِّ مهجـة ٌ
إذا ماعـداها البَيـن عذبها الهجـرُ
فأيقنـت أن لاعز بعـدي لعاشـقٍ
وأن يـدي مـما عَلِقت به صفـرُ
وقلَّبـت أمري لا أرى لي راحـة ً
إذا البيـن أنسانـي ألَحَّ بِيَ الهجـرُ
فعُدتُ إلى حُكم الزمانِ وحكمهـا
لهـا الذنب لاتُجزَى به ولي العـذرُ
كأنـي أنادي دون ميثـاء ظبيـةٍ
على شرف ظميـاء جللها الذعـرُ
تـجَفَّلُ حيناً ثـم ترنـو كأنـَّها
تنـادي طلاً بالوادِ أعجزه الخضـرُ
فـلا تنكرينـي يا ابنة العـم إنـه
ليعـرف من أنكرته البدو والحضـرُ
ولا تنكرينـي إننـي غيـر مُنكَـر ٍ
إذا زلت الأقدام واستُنـزِلَ النصـرُ
وإنـي لـجـرَّارٌ لكـل كتيبــةٍ
مُعَـوَّدةٌ أن لايـُخِلَّ بـها النصـرُ
وإنـي لنـَزَّالٌ بكـل مَـخُوفَـةٍ
كثيـر إلى نزالهـا النظـر الشـزرُ
فأظمأ حتـى ترتوي البيض والقنـا
وأسغَبُ حتـى يشبع الذِّئبُ والنسرُ
ولا أُصبـِحُ الـحي الخُلـُوف بـِغَـارَةٍ
ولا الجيش مالـم تأته قـَبلـِيَ النـُّذرُ
ويـارب دار لم تـخفنـي منيعـة
طلعـت عليها بالردى أنا والفجـرُ
وحـيٍّ رددت الخيل حتى ملكتـه
هزيـماً وردَّتنـي البراقع والخُمـرُ
وساحـبةِ الأذيـال نحوي لقيتهـا
فلم يلقها جافـي اللقاء ولا وَعـرُ
وهبت لها ما حـازه الجيش كلـهُ
ورحت ولم يكشف لأبياتـها سترُ
ولا راح يُطغينـي بأثوابـه الغنـى
ولا بات يُثنينـي عن الكرم الفقـرُ
وما حاجتي بالـمال أبغي وُفـورَهُ
إذا لم أفِر عرضي فلا وفـر الوفـرُ
أ ُسِرْتُ وما صحبي بعُزلٍ لدى الوغى
ولا فرسـي مُهـرٌ ولا رَبُّهُ غَمْـرُ
ولكن إذا حُمَّ القضاءُ على امـرئ ٍ
فليـس له بَـرٌّ يقيـه ولا بـحرُ
وقال أصيحـابي الفرار أو الـرَّدَى
فقلت هـما أمران أحلاهـما مـرُّ
ولكننـي أمضي لـما لايعيبنـي
وحسبك من أمرين خيرهما الأسـرُ
يقولون لي بـِعتَ السـلامة َ بالرَّدَى
فقلـت أما والله مانالنـي خُسـرُ
وهل يتجافى عني الـموت ساعـة ً
إذا ماتـجافى عني الأسر والضـرُّ
هو الموت فاختر ماعلا لك ذِكـْرُهُ
فلم يمت الإنسان ماحيي الذكـرُ
ولا خيـر في دفع الرَّدى بـِمذلةٍ
كما ردها يوما بسـوءته عمـرو
يـَمـُنـُّونَ أن خَلـَّوا ثيابي وإنـَّما
عـَلـَيَّ ثيـابٌ من دمائهـم حـمرُ
وقائم سيـفي فيهم إندقَّ نـَصْلـُهُ
وأعقاب رُمحي فيهم حُطـَّمَ الصـدر
سيذكـرني قومي إذا جَدَّ جـِدُّهُـم
وفي الليلة الظلماء يـُفـْتـَقـَدُ البـدرُ
فإن عشت فالطعن الذي يعرفـونه
وتلك القنا والبيض والضُّمَّرُ الشـُّقـْرُ
وإن مِـتُّ فالإنسان لابد مـَيِّـتٌ
وإن طالت الأيام وانفسح العمـرُ
ولو سد غيري ماسددت اكتفوا به
وما كان يغلو التـِّبر لو نفق الصفـرُ
ونحن أنـاسٌ لا توسـط عندنـا
لنا الصدر دون العالـمين أو القبرُ
تـهون علينا في المعالي نفوسنـا
ومن خطب الحسناء لم يغله المهرُ
أعزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العُلا
وأكرم من فوق التراب ولا فَخرُ