هل أنا شيخ المهربين حقا ؟؟
كاظم فنجان الحمامي
يشرفني أن أكون مواطنا مسالما رابضا في الصفوف الخلفية للأغلبية الصامتة, وافتخر بانتمائي إلى العراقيين البسطاء, الذين مازالوا يؤمنون إيمانا راسخا باليوم الموعود, الذي ستهبط فيه عدالة السماء على ربوع الميزوبوتاميا, ويشرفني أن أكون من الذين مازالوا يحلمون بإشاعة العدل والمساواة بين الناس كافة, يتطلعون إلى إرساء أدنى معايير العفة والنزاهة, يعيشون حياة الزهد والتقشف, مثلهم مثل أي مواطن بسيط لا يملك سوى التصرف الاجتماعي اللائق, والملبس التقليدي المتعفف, والمسكن المتواضع, ويتمنى العيش بكرامة واستقرار بين أهله وأحبائه, وهكذا وجدت نفسي قادرا على أن أكون عنصرا فاعلا في تحسين نشاطاتنا البحرية نحو الأفضل, فكنت أول من فكر بتغيير القوانين والتشريعات البحرية البالية, وأول من وضع الخوارزميات المينائية المخصصة لتدقيق البيانات المالية للسفن الأجنبية الوافدة, وأول من صاغ مسودة السلطة البحرية العراقية وطالب بها, إلى أن تحامتني العشيرة كلها, وأفردت إفراد البعير المُعبّد, وانتهى بي المطاف بالتغريد خارج السرب.
وشملني تسونامي وأد الكفاءات, فنأيت بنفسي عن دوامات المناصب العليا, بعد أن استحوذ عليها أولئك الذين تسللوا إلينا بثيابهم المبخرة برائحة النفط الأسود, فهموا بها وهمت بهم, حتى تمزقت قمصانهم وجلابيبهم كلها, فإن كان قميصي قُدَ من دُبرٍ, فان قمصانهم كلها قد قُدَتْ من قبل.
سألوا الأمير عني, سأله رجل معروف بالورع والتقوى, فأجابه الأمير جازما: (انه شيخ المهربين الضالعين بتهريب النفط). بمعنى أن الأمير الحاذق يعدني من عتاة التهريب, ومن كبار القجقجية, لم أكن اعلم بما قاله عني, لكني لاحظت أن الرجل الورع صار يتعامل معي بحذر شديد, ويشكك بتصرفاتي, حتى وقف بباب داري ذات يوم, وعندما أبصر سحب البؤس تخيم عليها, صاح بصوت عال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, كان الله في عونك يا ابني, ومضى في طريقه من دون أن ينبس ببنت شفة, وبعد مرور عام كامل على حوقلة الرجل الطيب, حدثتني العصافير بما صرح به الأمير, فتوجهت إلى القبلة بُعيد أذان المغرب, وشبكت عشري فوق رأسي, وصحت بأعلى صوتي, ثلاث مرات حسبي الله ونعم الوكيل, الهي أني مغلوبٌ فانتصر.
سمع الأمير السابق تصريحات الأمير اللاحق, فاستلقى على قفاه من الضحك, وقرر أن يجلي الغموض عن هذه الصورة المعتمة, فتحدث معه عني. لكنه لم ينجح في إقناعه, فلم يتغير الموقف, وظل الحال على ما هو عليه, فأنا في نظره شيخ المهربين, وشاهبندر تجار البترول, ثم تبرع أمير آخر فلفق لي تهمة أخرى من دون أن يقدم الدليل, وصبت فوق رأسي الاتهامات الملفقة حتى أقعدتني في كهوف النسيان, فانبرى لهم احد وجهاء الشعب, الذي تطوع للدفاع عني, وخاطب الأمير بلهجة معاتبة, وكنت حاضرا بالصدفة في المكان والزمان نفسهحين سأله الرجل الوجيه, قائلا: (أتعرف هذا الرجل ؟؟), وأشار إليّ بسبابته, واستأنف الرجل الوجيه قائلا: (أن هذا الرجل عندنا هو الخبير البحري المتميز بنشاطاته العلمية, المعروف بمهاراته الميدانية الواسعة, فلماذا تحاربون أصحاب الكفاءات, ولماذا تتعمدون وأدهم وإقصائهم ؟؟), فأنكرني الأمير قائلا: (أنا لا اعرف هذا الرجل, ولم التق به من قبل), فانتفض الوجيه غاضبا, وصاح: (يا سبحان الله, ما هذا يا ناس ؟؟). ثم انصرف منزعجا من دون أن يلتفت إلى الأمير, الذي كان يجلس إلى جانبي على الأريكة نفسها. وكنا أنا وإياه على بعد بضعة أمتار من ضريح الأمام الحسين, فانشغلت عنه بقراءة آخر المعلقات الرثائية, أردد هذه الأبيات, وأكرر قراءتها, ولم اكترث بما قاله عني, فأنا الآن في ضيافة سيد شباب أهل الجنة, ولست بحاجة إلى رعاية هذا الأمير, ولا إلى عواطف مجلس الأمراء بحاشيته, ولا اهتم بما يقولونه عني, فقد شدتني القصيدة, وكنت حينها أحلق في أجواء كربلاء, استعيد ذاكرتي المثقلة بالهموم والعذاب والأحزان, أطيل النظر إلى مثوى سادت السادات وليوث الغابات, أردد هذه الأبيات بعيون حرى تفيض بالمشاهد السابحة في انهار المصائب المتدفقة بتيارات الويلات والنكبات:
وبي غضض جل أن أدريهونفس أبت أن أقول اكظمكأنك أيقظت جرح العراقفتياره كله في دميكذا نحن يا سيدي يا حسينشداد على القهر لم نشكمتدور علينا عيون الذئابفنحتار من أيها نحتميلهذا وقعنا عراة الجراحكبارا على لؤمها الالئمسلامٌ عليك فأنت السلاموإن كنت مختضبا بالدمفأنت الدليل إلى الكبرياءبما ديس من صدرك الأكرمفلعبت السياسة لعبتها, واهتزت الأرض تحت أقدام الأمير الذي القاني في الجب, فترنح وفقد توازنه, وسقط مغشيا عليه, وخلعوه فانخلع, وألحقوه بركب الأمراء المخلوعين, أما أنا فمازلت احرث الماء في شط العرب, وأحكي للسفن والقوارب حكايات أبناء السندباد الذين أضاعوا جوازاتهم البحرية بين مراسي كورنيش البصرة. .