ساد السكونُ الكئيبُ منزلَ الحاج حيدربالقاهرة ..
إنه ذاك التاجر العراقى الذى غدر به القدرُ ..
فكانتْ لعنة الغزوِّ التترىّ على العراق ، وما قامَ
به هولاكو العصر الحديث السفاح بوش
فتذكَّرَ حيدر منزله الجميل هناك فى مدينته
( العمارة ) وسطَ عشيرته وأهله ، وكيفَ دكَّتْ
تلك الحربُ المسعورة منازلَ أهله ، فراحَ ضحيتها
ابنُ عمه وشقيقه ، ثمَّ كانَ الحزنُ الأكبرُ فى
استشهادِ ابنه الشاب حسين ، فغادرَ بلادَه مضطراً
للحفاظ على ابنته الوحيدة ( مياسه ) التى تدرسُ
الآن فى جامعة القاهرة ، وأصبح الدمعُ صديقاً
لايفارقُه ، وأضحتْ الهمومُ والأحزانُ ضيوفاً
مقيمين دوماً بقلبه ، ويعجزُ أنْ يطردَهم .....
ومازالتْ ابنته الحزينة مياسه تذهبُ يومياً لجامعة
القاهرة ، وتشعرُ بالغربة رغمَ جمالِ مصرَ
وفى مكتبة الجامعة دخلتْ ؛ لتسلِّىَ نفسَها
المهمومة بالقراءة عن تاريخ بلادها المجيد ، فإذا
بشابٍ يبحثُ عن نفس الكتاب ، فأرادَ أنْ يستأذنَها
لعمل بحثٍ هامٍ عن العراق ، وعرفتْ من لهجته
أنَّه عراقى مثلها ، ووجدتْ فى ملامحه صورة
أخيها الذى فقدتْه ، ووجدَ فيها صورة بلاده
التى رحلَ عنها ، ولازمتْه مرارة الحنينِ منذُ
فارقَ أرضها ، فابتسم قائلاً :
اسمى حسن من بغداد ، أعملُ مترجماً ، وأدرسُ
بالماجستير ...
فردتْ بابتسامة مجاملة :-
وأنا مياسه من محافظة ميسان
، وطالبة جامعية
واستطال الحديثُ بينهما ، وكأنهما يعرفانِ
بعضَهما من سنواتٍ بعيدة ....
وتوالتْ الأيامُ ، وازداد التعلقُ بينهما ، وكلما
قابلها ، نظرَ لوجهها الصافىّ ، وهاله عيناها
العراقيتان الواسعتان الجميلتان ، فنسى غربته
ونظرَ إلى النيل ، وتخيَّل أنَّه الفراتُ الجميل
وبدأتْ الابتسامة البعيدة تعودُ لتلك النفسِ
المكلومة ، فارتوتْ بعطر الحب الجميل
وتعاهدا على الزواج ، وبالفعل حدَّد موعدا
مع والدها عم حيدر....
استقبلَ عم حيدر طلبَ الزواج بكل ترحابٍ
وفرحتْ زوجتُه فاطمة بأنْ وجدتْ شاباً عراقيا
فى الغربة تتوافرُ فيه الصفاتُ المرغوبة للزواج
من ابنتهم ، ولكن العم حيدر قالَ إنَّه لايستطيعُ أنْ
يزوجَ ابنته فى مصر ، وإنَّه لابدَّ له من الرجوع
لعشيرته وأهله ؛ لاستشارتهم ولابدَّ أنْ يكونَ
الزفافُ هناك فى مدينته بالعمارة وسط أهله
ليشاركوه فرحته ، وإلا كان هذا مأخذاً كبيراً
عليه ، وإنَّه سيصحبُ ابنته وزوجته للسفر
سريعاً للعراق ؛ ليُعِدَّ أمورَ الزفاف ، على أنْ
يَلحقَ بهم حسنُ بعد أسبوعٍ من سفرهم ، وأمام
مسجد سيد الشهداء الإمام الحسين بالقاهرة كان
الوداعُ بين الحبيبين ، وبكتْ مياسه ؛ لأنها لن ترى
حبيبها حسن لمدة أسبوع ، لكنه تماسكَ مؤكداً
بأنَّها مجرد أيامٍ قليلة ، وسيجمعُ الله شملهما ....
عاد عم حيدر إلى العراق ، ودخل منزله ، الذى
امتلأ بالعنكبوت والأحزان ، وتذكَّر ولده الشهيد
فدمعتْ عيناه ، فشاركتْه ابنته وزوجته البكاءَ
المريرَ ، ولكنَّه حاولَ أنْ يُتممَ زواج ابنته
بسرعةٍ حتى يعودَ بهم لمصر ، فإنََّه لنْ يتحملَ
البقاء ، فى نفس المكان الذى ضاع فيه أغلى
الأحباب ، وآهٍ من الأرض التى ارتوى زرعُها
بدماء الشهداء ، ودموع البؤساء المعذبين
.....
وفى الصباح خرجتْ مياسه لشراء مستلزمات
الزفاف ، وحملتْ فستانَ الزفاف الأبيض ، وسطَ
فرحة أمها ، والتى تمنتْ أنْ تعيشَ حتى تراها
وهى تلبسُه فى حفل الزفاف ، وما هى لحظاتٌ
حتى امتدَّتْ يدُ الإرهاب الطائشة ، بوقوع انفجارٍ
قريبٍ منها فى الشارع المكتظ ، ووقع الجميعُ
بين صريعٍ وجريحٍ ، فهذا رجلٌ فقيرٌ خرجَ ساعياً
للرزقِ على أسرته ، وتلك امرأة بائسة خرجتْ
لتجلبَ الطعامَ لأطفالها ، ولكنَّ قلوب الشياطين
تحجرتْ ولم ترحمْ دموعَ طفل أو عجزَ مريضٍ
وامتلأتْ الأرضُ بالدماء العزيزة ، وراحتْ
مياسه فى إغماءةٍ طويلة ، وفى يدها فستانها
الأبيض الذى تحوَّل للون الأحمر...
أفاقتْ مياسه من إغماءتها فى المستشفى ؛ لتجدَ
أمها فاطمة وقد استشهدتْ بيد الإرهاب الغاشمة
وحاولتْ الوقوفَ ؛ لتسيرَ لقبر أمها ، فوجدتْ
أنَّ قدميها قد بُتِرتْ من أثر الانفجار ، ومازالَ
أبوها بجوارها يواسيها ، محاولاً الإمساكَ بدمعة
لم تطاوعْه ، ونزلتْ رغماً عنه حارة مؤلمة ...
ومرَّ أسبوعٌ ، وحسن مازال يتصلُ بمحمولها من
مصر ، وهى لاتردُّ عليه ، وأبوها يحثها على
الرد ولكنها قالت :
يا أبى أصبحَ قدرى أنْ اجلسَ على ذاك المقعد
المتحرك ، ولنْ أكونَ مجالاً لشفقة حسن ، ولقد
حانتْ لحظة الفراق ، ولكننى لنْ أجعلَه يتذكرُنى
بل سأجعله يكرهُنى ؛ لينسانى بسرعةٍ ....
فطلبتْ من إحدى قريباتها أنْ تتصلَ بحسن
لتقولَ له بأنْ الزواجَ نصيبٌ ، وإنَّ مياسه تأسفُ
لعدم إتمام الزواج ، حيث ظهرَ رجلٌ آخرُ أفضل
منه مادياً ، وتتمنى له السعادة مع غيرها.....
وجلستْ مياسه على مقعدها المتحركُ ، ولاحتْ
صورة حسن ، وهما يجريان ويمرحان مرحَ
العُشاق البريئ حولَ حديقةٍ مطلةٍ على النيل
وأخذتْ تمحو عن عينها دمعة ملأتْ خدَّها
الرقيق ، فأمسكتْ بالمصحفِ تقرأ فيه ؛ لتتصبرَ
على ذاك البلاء العظيم....
تمت بحمد الله