كيف لمجتمع النجف المحافظ ان يغفر للحاج زاير مثل هذه الجرأة التي لا يقدر على قولها زعيم قبيلة نجفي حتى لو كان من الشمرت او الزكَرت ؟ حاج زاير يقول ان اصحاب اللحى وهي كناية عن بعض رجال الدين او ممن يدعي الدين اخذوا يبيعون شرف اللحية بأبخس الأثمان !! وهو نقد لمجتمع ما فتيء ينظر الى زاير على انه قروي جاء وسطع نجمه في النجف بفضل مجالسها ورجال الدين فيها الذين كانوا يقودون مجتمع المدينة الى جانب زعماء القبائل والتجار وكبار الملاك !! اي شيء ينتظره الحاج زاير من مجتمع يضطره الى بيع ملابسه !!
ولاية اعبادي اشكثر ميشومه
حجي زاير رهن بيها اهدومه !!
ولكن النجف تغفر للحاج زاير نقداته اللاذعة لأنها مدينة الشعر فهي اولى ان تعرف مع اية موهبة كبرى تتعايش !! شيء يشبه العقد بين زاير والمدينة ان تغض احيانا عن جرأته وان تغضب عليه احيانا !! وزاير ان يغفر للناس ما آل اليه حاله وان يشتمهم احيانا !! وكان زاير خبيرا في جعل افئدة الناس تتعلق به !! يقرأ في المجالس والبيوت وتصل اشعاره كل مساحات الفرات الأوسط !! بل ان اشعاره تصل النساء في خدورهن عهد ذاك !! وقد فاتشت كثيرا من النساء المسنات وكن يحفظن الوفير من شعر الحاج زاير !! و انتبه الحاج زاير الى اثر الموسيقا في الأستحواذ على قلوب السامعين وعقولهم ! كيف لا ينتبه الى النغم وقد مر بنا انه كان ذا صوت شجي وكان يغني فيعم الطرب الجميع ! بل مر بنا ان الحاج زاير ابتكر مقاما خاصا به عرف به ونسب اليه وهو مقام الزايري !!! ودليلنا ان زاير ركز موهبته الكبرى على الزهيري او الموال ! ولكنه لم يغفل الدارمي ولا الميمر ولا الأبوذية !! فموهبته تنجده وترفعه اسمى المقامات !! والشكوى عند زاير ضرب من الشعور بالإغتراب !! والذي يركبه هذا الشعور يجد حاجة كبيرة في نفسه الى تعاطف الناس مع همومه !! ولعل موهبته قادته الى ان يكسب الناس الى قضيته من خلال مغنطتهم بسحر شعره ذي الإيقاعات الفذة المؤثرة عميقا في السامعين !! اذن هو يسعى بالجمالي الى الموضوعي او بالبنية الخارجية الى تعزيز البنية الداخلية !! ويمكن القول ان الشعر الشعبي يكلف الإيقاع كثيرا من همومه وأمانيه !فالإيقاع مرتكز رئيس في شعرية النص الشعبي يتكافل مع الصور الفنية المجازية والواقعية ! والشاعر الشعبي يدرك بفطرته الذكية فعل الأيقاع الموسيقي في النفس والنص معا !!
ألف /الزهيري مثلا ايقاع قريب السلوك من آليات البحر البسيط ( مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن ) وذي علة اكتنازه بطاقات نغمية عالية ! مثلا :
يل واعدتني أخافن يختلف وعداك
ويضيع ذاك التعب للوادعك وعداك
......
ياتايه الراي دولاب الزمان ايدور ........ الخ
يلواعدت = 0110101 = تم تم ت تم (مستفعلن )
نيأخا = 01101 = تم ت تم ( فاعلن )
فنيختلف = 0110101 = تم تم ت تم ( مستفعلن )
وعداك = 00101 = تم تم م فعلان ( مف /عو/ل )
ويضيعذا = 0110101 = تم تم ت تم ( مستفعلن )
كتتعب = 01101 = تم ت تم ( فاعلن )
للوادعك = 0110101 = تم تم ت تم ( مستفعلن )
وعداك = 00101 = تم تم م ( فعلان / مفعول )
ياتايهر = 0110101 = تم تم ت تم ( مستفعلن )
رايدو = 01101 = تم ت تم ( فاعلن )
لابززما = 0110101 = تم تم ت تم ( مستفعلن )
نيدور = 00101 = تم تم م ( فعلان / مفعول )
وقد تهيأ لنا أن للزهيري مكنات ايقاعية عالية التأثير !! ففضلا عن الفصلات المحددة ثمة موسيقا الحروف التي تجهش بها مقاطع الحزن والشكوى ! فالحروف تتجاوب وتتناوب لتشكل حكاية نغمية تسعى الى تقوية المعنى و توضيحه و تكملته و تجميله (14 )
جم دوب أهج هاج ما جن الذرى ولفاي
امهجول ولا عاود الديرة هلي ولفاي
ما اطلب اديارهم طاري الفلا ولفاي
هايم بالوهاد من يوم النوو بالراح
مذهول مذعور حاير بس ادكَـ بالراح
جنة وجانوا وجان إلنه الهنا والراح
لا جنه جنه ولا جنهم كَبل ولفاي .
لاحظنا كيف هيأت الحروف ذائقة النص والمتلقي شيء منه بحيث بتنا نسمع موسيقا ونتطلع الى المعنى من خلال النغم !! وهناك مشكلة وصف الحرف جيم مثلا لغير الفراتي !! فهذا الحرف يلفظ CH مرة ويلفظ G اخرى ويلفظ جيم عربية J ثالثة !! قارن :
جم/ اهج / هاج / جن / مهجول / جنه / جانو / جان / جنه / جهنم = 11 جيما
مثلا CH جم جن جنه جانو
G اهج هاج مهجول جهنم
ولنا ان نرصد حرف الهاء المنبثق من اعمق نقطة في صندوق الصوت فكأن المنشد يتخلص بوساطته من هواء حار احرق رئتيه !!
اهج / هاج / الذره / مذهول / النه / الهنا / امهجول / هلي /
اديارهم / الفله / جنه / جنه / هايم / الاوهاد / جهنم = 15 هاءً
باء / الأبوذيه : يقول الدكتور صبري مسلم الحسيني ( الأبوذيه غناء شعبي حزين تصاحبه الآهات والأنين وتثقله امتدادات صوتية توحي بالأسى العميق وهي في اغلبها تنطوي على الشكوى من الزمن او هجر الحبيبة وتتضمن فخرا بالذات واعتدادا بالنفس وقد اشتهر الشعراء المنحدرون من قرى العراق وريفه ووسطه وجنوبه ومنها قرية السادة ال بو اذبحك قرب بابل بفن الأبوذية ! وربما سكن بعضهم المدن ومن هؤلاء الحاج زاير الدويج من الفرات الأوسط وقد نظمت الأبوذية على البحر الوافر مفاعلتن مفاعلتن فعولن مرتين حال خضوعه لقطف عروضه فتصير فعولن وينطبق هذا على ضربه ولم نجد في الأبوذية ما يأتي مفاعلتن وانما على مفاعيلن وبتعبير آخر ان تفعيلة الوافر تعصب في كل الأحيان مما يجعلنا ميالين الى اقترانها ببحر الهزج مع شيء من تحوير العروض والضرب مفاعيلن مفاعيلن فعولن مرتين ) ( 15 )
وحكَـ التين والزيتون والمن
اجروحي الطابن امن اسنين ولمن
السدر والجفن والكافور والمن
كَبل طرت الفجر يسرون بيه
وحكَـكَـ تتي = 0101011 / ت تم تم تم / مفاعيلن
نوززيتو = 0101011 / ت تم تم تم / مفاعيلن
نولمن = 01011 / ت تم تم / فعولن
جروحططا = 0101011 / ت تم تم تم / مفاعيلن
بنمنسني = 0101011 / ت تم تم تم / مفاعيلن
نولمن = 01011 / ت تم تم / فعولن
هذا الإيقاع كما سلف قريب النحو من بحر الهزج استنادا الى حاصل الوتد المجموع 011 والسببين الخفيفين 01 / 01 في مفاعيلن !! لكننا نرى ما لايراه الزميل دكتور صبري مسلم الحسيني مع تقديرنا لتخصصه في التراث الشعبي !! انني ارى ان الأصل في الأبوذية هو الوافر لأن إيقاع الوافر بطيء وايقاع الهزج سريع ومن يدوزن اذنه يسمع في الأبوذية وافرا ولا يسمع هزجا !! يسمع (مفا / علْ / تن ) اي ان خامس متفاعلن ساكن وليس متحركا بعبارة علمية نحن بازاء وتد مجموع + سبب خفيف + سبب خفيف = الوافر عللى نحو ما !! وهذه الإشكالية النغمية وقع فيها الزملاء من نقاد موسيقا الشعر فنسبوا بعض ابيات معلقة عنترة وهي ميمية مشهورة الى مستفعلن الرجز لأنهم واجهوا ظاهريا 0110101 سبب خفيف + سبب خفيف + وتد مجموع !!
وكنت موقنا ان ايقاع الكامل ابطأ من ايقاع الرجز وايقاع معلقة عنترة منتم الى الكامل فتعين على المحلل الموسيقي ان يقرأ مستفعلن هكذا :
مس / تف / ع/لن + متْ / فا / ع / لن
وقد اصطنعنا قاسما بين :
مستفعلن 0110101 سبب خفيف + سبب خفيف + وتد مجموع
= + = + = 0110101 متْفاعلن
وقد احالنا حذق النص الزايري الى ميكانزم تداعي الحروف مما يهيء للدارس ان الأبوذية باحتفاليتها النغمية هذه قادرة على وعب شحنات الإغتراب التي تغني للذات قبل الموضوع وتنتهي الأبوذية بكلمة او عدد من الحروف تتكرر ثلاث مرات بهيئتها ذاتها بيد ان المعنى يختلف في كل شطر واخيرا اي في الشطر الرابع تنتهي ( يِيْ يَهْ ) ثلاث ياءات وهاء السكت بما يؤثل انها تطورت عن الموشح الذي يصر على ان تكون خرجته عامية مغرقة في المحلية او ان الموشح تطور عنها فاذا عدنا الى الكلمة ذاتها التي تعطي وفق السياق معنى مختلفا شعرنا ان هذ السلوك ضرب من الجناس ( والجناس وفق اهل البديع تشابه الكلمتين في اللفظ فقط وهو محسن لفظي ... ) (16 ) وجناس الأبوذية جناس تام حيث تتفق الألفاظ الثلاثة في انواع الحروف واعدادها وهيئتها وترتيبها وهو مشهور في الفصحى قارن ابا تمام الطائي وهو يجنِّس يحيى :
مامات من كرم الزمان فإنه يحيا الذي يحيى بن عبد لله
وقول الآخر :
ودارهم ما دمت في دارهم وارضهم ما دمت في ارضهم
وقارن امثلة اخرى خارج الشعر :
كسرة الخبز تكفيني الى يوم تكفيني
ارى قدمي اراق دمي
تاء / إيقاعات اخرى:
من نحومستفعلن مفعولن ومفعولاتن مفعولات وهي فعلن فعلن فعلن فع وفعلن فعلن فعلن فعل ومستفعلن مستفعلن مستفعلن وفاعلاتن فاعلاتن فاعلن ! وهي شظايا بحور : مستفعلن الرجز وفعلن المتدارك وفاعلاتن الرمل !وغالبا ما يسمى ايقاع المتدارك في الشعر الشعبي مي مر فع لن سب خفيف + سبب خفيف او حركة سكون مع حركة سكون !! قارن :
بالطيف شفت المحشر
عيروا اعمالي بالصح
فزيت من عز النوم .
ثم قارن :
اهنا يحادي ماتخبر نشدها
ترضه خوية ايرجبونه اعلل هزل
والأمثلة وفيرة بين يدي الباحث حين يعود الى ديوان الحاج زاير الذي يتضمن ما تبقى من شعر هذا النجم الساطع وسوف يلاحظ اي باحث ان اختيارات الحاج زاير من الموسيقا لشعره متأت من وعي مبكر لأثر النغم في النفوس العطشى للجمال ولذلك فقد تعددت ايقاعاته وتنوعت لكي تناسب المعنى اولا فيشترك النغم والمعنى في تطريب المتلقي والإستحواذ عليه وينبغي ان لا يغيب عني وعن اي باحث واعني نبرة الحزن والسخرية المرة او البكائية الفجائعية الجارحة بما يحيلنا الى شعور زاير الفادح بالأغتراب عن زمكانه فكانت الشكوى او النجوى سبيلا لاحبا لهموم النصوص الزايرية !!
وبعد : اشعر انني اطلت الحديث مع القراء في عصر اختطاف المعنى وايجاز الإيجاز !! لكن الحاج زاير عاش مظلوما ومات مظلوما وقد حاولت التعريف به في كل مؤتمر شعري وبخاصة في المغرب وليبيا وتونس ومن قبل شهدت قاعة اتحاد الأدباء العراقيين محاضرتين لي الأولى في الصورة الفنية في الشعر الشعبي العراقي وكان الكوميدي حسين قسام والتراجيدي الحاج زاير من الجيل الأول نموذجيَّ الرئيسين !! والأخرى في ظاهرة الإغتراب في الشعر الشعبي العراقي وكان الأقرب اليَّ الكبيران حسين قسام الذي يضحك الناس وينزف في اعماقه والحاج زاير الذي اسس رؤية متميزة للإغتراب فلفت الأثنان كبار النقاد العرب والعالميين بينا يجهل الجيل الجديد الكثير عنهما ومن يريد الإستزادة والتوسع في معرفة المصادر والمراجع فقد احلناه عليها هنا في البحث وهناك في كتابي الخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية وقد يسعفني العمر والبال لكي اطبع كتابي في الأغتراب حيث تناولت عددا كبيرا من الشعراء الشعبيين المعاصرين الذين ازعم انهم البقية المتميزة لجيل الحاج زاير وبي رغبة لشكر القاريء على صبره مع هذا البحث .
انجزت طباعة هذا البحث وتحديثه ومراجعته في صبيحة الأربعاء 21 جنيوري كانون ثاني 2004
مشيغن المحروسة / البروفسورعبدالإله الصائغ



رد مع اقتباس