لقطار‏
مرّ منذ قليل...‏
لو أنه يأخذني معه، ذاك القطار الجميل الذي يمر كل صباح بجانب النهر، لو أنه يأخذني معه إلى أماكن لم أرها من قبل.. ربما تغيّر شيء في مجرى حياتي القصيرة، المعذبة.‏
يقولون: إن القطارات رائعة، تحمل في أشكالها وسفرها الطويل ما لا تحمله جميع الآلات التي اخترعها عقل الإنسان، ذاك القطار، لو أنه يأخذني معه، ذاك الذي استيقظ على ندائه وضجيج عجلاته الحديدية الباردة...‏
ذات يوم، حين كان جسدي يكبر بسرعة، استيقظت مرعوباً، فتحتُ النافذة لأرى قطاراً طويلاً قد انحرف عن السكة السوداء المتشبثة بالأرض، وظل منظر القطار المعجون بلحم الركاب وأبوابه، ونوافذه المهشمة المصبوغة بدماء قانية محفوراً في ذاكرتي إلى الأبد.‏
وقتها كان منزلنا الصغير قرب المحطة، وكان أبي يعمل كمراقب للقطارات، أما بعد موته بحادث مفاجئ عجن لحمه البائس بحديد القطار الأسود الطويل، انتقلتُ مع جدتي وأمي الخرساء، إلى مكان بعيد عن سكك القطارات ومحطاتها.‏
أما أنا، فقد ظل ذاك الشعور الجميل يراودني كل صباح، وكل مساء، شعور يخبرني أن قطاراً ما سيأخذني معه ذات صباح.‏
أستطيع الآن أن أتأكد تماماً من أن المكان الذي نسكنه لا يوجد فيه قطارات أو نهر، ولا حتى محطة للقطار أو ساقية صغيرة، وأن ما ذكرته منذ قليل عن ذاك القطار الذي عجن الركاب، لم يكن صحيحاً، كما أن أبي لم يعمل في محطة للقطارات، وبالتالي لم يمت بتلك الطريقة التي ذكرتها، بل بطريقة أشد فتكاً وشراسة!‏
وأمي العجوز المريضة لم تكن خرساء، بل كثيرة الثرثرة، وبأن جدتي ماتت قبل أن أعرفها بمرض خبيث، ربما انتقل إلى دمي بالوراثة، إنما أحببت أن أقول: إن حياتي جد بائسة، وحزينة، ولا تطاق، وإن هذا العالم الجميل، المليء بالسلام والمحبة والفرح، هو بأشد الحاجة للتخلص من حياة مقهورة، وكئيبة، كحياتي...!‏
**‏
حكاية ثانية: الثلج‏
أريد.. والثلج الأبيض الجميل يتساقط خلف زجاج نافذتي بهدوء، أريد أن أخبركم قصة وأنام، أو أموت، لا فرق، المهم أن أخبركم، قصة عن فتاة حلوة، لم أحبها... إنما في غضون أسبوع اقتنعتُ بها، أو بالأحرى لم أقتنع بعد، ولكي أقتنع وأتأكد من قناعتي، ذهبت في هذا المساء وخطبتُها.‏
والقصة التي سأخبركم إياها، ستكون حتماً بعيدة عن الحب وعذاب الحب وإرهاصاته، قصة هادئة كالثلج الذي يتساقط الآن وراء الزجاج...‏
إنما تلك الفتاة الجميلة ربما أحبتني، وتعلّقت بلون عيني، وبطباعي الهادئة كالثلج، فأصرّت على أن تكون معي، على الحلوة والمرة.‏
ما رأيكم؟ هل القصة جميلة؟ أم أنكم نمتم، أم أن الذي بحاجة إلى النوم- ولمدة مئة عام- هو أنا!؟‏
ابنة الجيران، الفتاة الصغيرة، البريئة دخلت فجأة إلى غرفتي الوحيدة، دخلت بهدوء... وجلست قرب الباب الخشبي القديم تتأمل حركة يدي فوق الورق... وحين رفعت رأسي رأيتُها... اقتربت مني ثم ابتسمت وهي تمد لي وردة حمراء صغيرة:‏
((مبروك عمو الخطبة))‏
والثلج الناعم ما زال يتساقط خلف زجاج نافذتي.. والعصفور الأصفر الجميل يخطر في بالي كثيراً في هذه اللحظات... ذاك العصفور الذي نسيه أخي حين جاؤوا وأخذوه إلى مكان بعيد... كالنجوم، ومظلم كقبر، وموحش كقلبي.‏
لم يذكره أخي.. لو تذكر لطلب فقط من أولئك الرجال أن يسمحوا لـه، باسم جمعية الرفق بالطيور والحيوان، بأخذ العصفور الأصفر الجميل إلى بيت عمي، أو إلى بيت الجيران، لكن أخي أخبرني عندما نجحنا بعد ثلاث سنوات برؤيته، أن أولئك الرجال لا يحبون العصافير، ولا النجوم، ولا الورود الحمراء، وحين عاد أخي من تلك الرحلة الطويلة، وجد العصفور ميتاً، داخل القفص وإلى جانبه نبتت وردة حمراء.‏
((هل تصدقون ذلك؟ أم تريدون تفسيراً علمياً؟. أليست قصة العصفور الأصفر الجميل، هي جزء من نهايات الكتابة الجديدة، في الأدب، أو ما يدعى بالحداثة؟))‏
آه... كم أنا حزين وكئيب على موت العصفور الأصفر، كم أنا حزين ومقهور... أما حزني الأكبر، فهو على أخي، الذي سافر مرة أخرى في رحلة جديدة، ولم يعد حتى اليوم!‏
هل نمتم؟‏
أم أن الذي بحاجة إلى النوم- ولمدة مئة عام- هو أنا؟!‏
***‏