أمسكت بقلمي بين أناملي، و أطبقت الخناق عليه، حتى يشعر بأحزاني وبمشاعري الدفينة في أعماق الأعماق، وحتى يحس بما يختلج في صدري من ألم وحرقة، ويستطيع أن يعبر بصدق أكبر ولو على جزء قليل مما أحسه، وحتى ينزل مداده دما حارا يرسم ببطء حروفا، ويتبع أبجدية، كم أتمنى التحرر منها، وإيجاد أبجدية خاصة بي، تستطيع أن تصور وتترجم أحاسيس قلبي، وتصف لهفته وحرقته، التي أأكد بأن كل الكلام الذي قيل على مر العصور، وعبر كل الأزمنة، وفي كل الأمصار، لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن يعبر ولو عن القليل، أما ورقتي فقد أبت أن تخضع لي، وأن تتحمل ثقل معاني الكلمات التي أردت أن أخططها على بياضها، فكانت تحاول الفرار، ولكني أأكد بأن كل الأوراق التي وجدت عبر العصور، ما تستطيع أن تحمل كل الكلمات التي يحملها قلبي، وتصف لوعتي وحيرتي، التي أقسم أني لم أعرف يوما مثلها، ولم أشعرها قط فيما مضى، فما الذي أصابني، فأنا لم أكن أتصور يوما بأنني سأصاب بداء الهوى، الذي سرى كالداء في ضلوعي، وتغلغل في عظامي، واحتل لبابة قلبي، واستعمر أفكار عقلي، بل استوطن بكل أرجاء جسمي، وصار يجري مع الدم في عروقي، حتى أصبح يسابق خلايا دمي في جريانها، فما عدت أدري ما دوائي، فمشاعر الحزن صارت تخنقني، وعبراتي حارة في عيوني تحرقني، وعقلي صار عن التفكير عاجزا، وأسيرة لأهواء فؤادي صرت، وأنا التي لطالما كان عقلي هو دليلي ونبراسي، فما الذي أصابني، فقد بت أفتقدني، تائهة مني، ضالة عني، تأبى عيوني أي شيء غير البكاء، وذرف الدموع، فحين يغيب عني الحبيب تغيب عني الروح وأفتقد الحياة، فأصير جثة بلا أمل، وأصبح خرابا كحطام، لا أتقن شيئا سوى التحسر والبكاء، فأينني مني، وأينني من عالم الحبيب ومن عالمي، أبحث عني فلا أجدني، فقد تركت قلبي وعقلي وروحي ومهجتي وكياني، مع من ملكني وأسرني، وصرت له بكل جوارحي وأحاسيسي، فبعده يقتلني و شوقي إليه الذي يفوق كل الوصف، يذبح قلبي ويذبحني، فماذا أصنع مع قلبي، فقد حيرني، فلا يرضيه إلا البقاء بجوار حبيبه، ووالله ما بيدي، فكيف أطفئ ناره، فقد احترت حتى مزقتني الحيرة، حتى أصبحت متأكدة من أنني لست فقط أحبه، وإنما أحس شيئا جديدا خلق لأجلنا أنا وهو ولا أحد سوانا، شيء أقوى من الحب وأعمق، شيء كل عبارات العشق والهوى، لن تقدر على وصفه مهما حاولت، فقد صرت أراه صوب عيني، في صحوي ومنامي، فلا أفكر في سواه، ولا أحلم بسواه، ووجدتني صرت أسيرة لهواه، ولكن حينما أراه، يرفرف قلبي كالطير السجين الذي يذوق طعم الحرية لمرته الأولى، وحين أسمع صوته، يسري صداه في عروقي، ويحتل قلبي، وأسمعه بكل جوارحي، أحلى من أحلى موسيقى سمعتها طوال حياتي، وأرغب بتحقيق كل الأماني، التي استعمرت فؤادي، بأن أحضنه وأضع رأسي على صدره، وأتسمع دقات قلبه، فأفهم معانيها، وتتسارع مع دقات قلبي الذي يعشقه، وأحس ذراعيه تحيط بي، وتأخذني إلى عالم أنسى فيه كل همومي، وأنسى معه كل الدنيا، فأعيش عمري كله في تلك اللحظات، وأنسى كل العمر الذي مضى، وأطوي صفحته وأرميها وراء جبل النسيان، لكأنه كان يوما مر من تاريخي بلا أهمية، ولكن فكرة الجفاء والفراق تتسلل إلى رأسي، كتسلل الأفعى إلى جنة عدن، فأحس بالحرقة في قلبي،والتي تسري عبر عروقي، وتنبعث من عيوني عبرات أحر من الجمر، تحرق خدي، فيعود إلي الألم، وتصير اللوعة خليلة قلبي، ويعود الشوق ليقتلني ولا يحييني، ويعود الحزن ليخنقني، وأعود لأض يع مني من جديد، فأصير جسدا بلا روح، وبلا أمل، وبلا حياة، ينتظر مصيره، ويخشى على الحبيب من نسمة الخريف، ومن نظرات العيون، ويغار عليه من نسمة الربيع، ومن كل الناس، بل حتى مني أنا أغار عليه، حتى حين أحبه أغار عليه، حتى حين أغار عليه، فالغيرة تملأ قلبي، وتحتل وجداني، فمتى يحين الوقت لأرتاح من ظنوني، وخوفي عليه، ولهفتي وشوقي وحر نار بعاده عني، التي تأكل قلبي وتنهش مهجتي، كما تأكل الحطب، متى؟ فقد عيل مني صبري، ونفذت دموع عيني...