موضوع لمهندالكربلائي
بسم الله الرحمن الرحيم
(( مِّنَ المُؤمِنينَ رِجـالٌ صَـدَقواْ مَـا عَـاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ
فَمِنهُم مَّن قَضَى نَحبَهُ ومنهُم مَن يَنتظرُ وَمَا بَدَّلُوا تبدِيلاً ))
صَدَقَ اللهُ العَليُّ العَظيمُ
الصبرمن مدرسة عاشوراءفي ذكرى الاخ الحبيب ابوزهراء
الصبر : هو حبس النفس عما تنازع إليه من ضد ما ينبغي أن يكون عليه ، وضده الجزع قال :
فَإنْ تَصبِرا فالصَّبْرُ خَيْرٌ مغبَّة * وإِن تجزَعا فالامرُ ماتَريانِ
(ومما يدعو ألى تماسك الشخصية وتوازنها الصبر على الاحداث وعدم الانهيار أمام محن الايام وخطوبها ، وقد أكد الاسلام على هذه الظاهرة بصورة خاصة ، وحث المسلمين على التحلي بها وأن من يتخلق بها فإن الله يَمنحهُ الاجرَ بغير حساب ، قال تعالى : ( ولنجزينَّ الذين صَبرُوا أجرَهُم بأحسنِ ما كانوا يَعملون ) ، وقال تعالى : ( إنما يُوفى الصّابرُون أجرَهُم بغيرِ حِساب) ، وقال تعالى : ( وجزاهم بما صَبروا جنةً وَحريراً) ، وقال تعالى : ( وجعلنا مِنهُم أئمةً يَهدوَن بأمرنا لمّا صَبروا وكانُوا بآياتنا يُوقنون) ، وقال تعالى في مدحه لنبيه أيوبَ (عليه السلام) : ( إنا وَجدناه صَابراً نِعمَ العبدُ إنه أواب )
إنَّ الصبر نفحةٌ من نفحات الله ، يَعتصمُ به المؤمن فيتلقى المكارهَ والمصاعب بحزم ثابت ونفس مطمئنة ، ولولاهُ لانهارت نفسُه ، وتحطمت قواه ، وأصبحَ عاجزاً عن السير في رَكب الحياة ، وقد دعا الاسلامُ إلى الاعتصام به لانه من أهم الفضائل الخُلقية ، وقد ذكرهُ القرآنُ الكريم في سبعين آية ، ولم يذكر فضيلة أخرى بهذا المقدار ، وما سببُ ذلك إلا لعظيم أمره ، ولانه من مصادر النهوض الاجتماعي ، فالامة التي لا صَبرَ لها لا يُمكن أن تصمُدَ في وجهِ الاعاصير ، مضافاً لذلك أنه يُربي ملكاتِ الخير في النفس فما فضيلة إلا وهي محتاجةٌ إليه.
وقد أثر عنهم في ذلك الشيء الكثير من الاخبار ، فقد قال الامام أبو جعفر(عليه السلام) : الجنة محفوفةٌ بالمكاره والصبر ، فمن صَبَر على المكاره في الدُنيا دخل الجنة ، وقال الامام زين العابدين (عليه السلام) : الصبرُ من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبرَ له
إن الصبر بلسمٌ للقلوب المكلومة التي أثكلها الخطب وجار عليها الزمانُ ، وهو عزاءٌ للنفوس الحزينة التي هامت بتيار الهواجس والهموم ، وهو تسليةٌ للمعذبين يجدون فيه الاطمئنان ، وتحت كنفه ينعَمون بالراحة والاستقرار وفي ليلة عاشوراء التي حَفلت بعظيمِ المكاره والمصائب والارزاء ، والتي لا يُعهد لها مثيل في تاريخ البشرية ، نرى وقد برزَ الصبرُ فيها ، وصار أحدَ سِماتها ، وصفةً قد تحلى بها أصحابُها ، حتى أصبحَ كلُ واحد منهم كالجبل الاصم لا تهزه
العواصف ومِنْ بينهم سيدُ شباب أهل الجنة ـ صلوات الله عليه ـ الذي كُلما ازداد الموقف شدةً ازداد صبراً وإشراقةً.
يقول الاربلي : شجاعةُ الحسين (عليه السلام) يُضربُ بها المثل ، وَصبرُه في مأقط الحرب أعجزَ والاواخر الاوائلَ والاواخر
وكما قيل : إن في بشاشة وَجه الرئيس أثراً كبيراً في قوُة آمال الاتباع ونشاط أعصابهم ، فكان أصحابه كلما نظروا إليه (عليه السلام) ازدادوا نَشاطاً وصمُوداً ، هَذا مع ما هو فيه ـ صلوات الله عليه ـ من البلاء العظيم والخطب الجسيم في ليلة لم تمر عليه باعَظمَ منها ، حيث يُرَى الاعداءَ قد اجتمعوا لقتاله وقتال أهل بيته ، وهو يَرى أهلهَ يرقبونَ نزولَ البلاء العظيم مع ما هُم فيه من العطش الشديد ، بلا زاد ولا ماء حتى ذَبُلت شِفاهُهُم وغارت عيونُهم ، وبُحّت أصواتهم ، وذعُرتْ أطفالهم ، وارتاعت قلوبهم ، في وَجَل شديد على فراق الاحبة وفقد الاعزة ، ومَنْ يرى ذلك كيف لا ينهار ولا يضعُف ولا تقل عزيمته وهو يرى ما يَبعثُ على الالم ويُحطِّم القُوى !!
إلا أن الحسين(عليه السلام) الذي كان يَلحظ ذلك بعينه ، لا تجد أثراً من ذلك في نفسه بل كان يزدادُ صبراً وعزيمةً ، وتحمل تلك الاعباء الثقيلة ، وتسلح بالصبر على الاذى في سبيل الله تعالى وهو القائل : ومَنْ رَدَّ عليَّ هذا أصبرُ حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين فكان (عليه السلام) نعم الصابر المحتسب عند الله تعالى .
وقد جاء في الزيارة عن الامام الصادق (عليه السلام) : وصَبرتَ على الاذى في جنبه
_محتسباً حتى أتاك اليقين.
وناهيك تعجب ملائكة السماء من صبره كما جاء في الزيارة : وقد عجبت من صبرك ملائكةُ السموات
وكان يقول (عليه السلام) في أوقاتِ الشدة يوم عاشواء وهو متشحّط بدمه :
صَبراً على قضائك يا رب لا إلهَ سِواكَ ، يا غِياثَ المستغيثين مالي ربٌّ سواك ولا معبود غيرك صبراً على حكمك وناهيك عن موقفه المرير وهو يُشاهد مقتلَ رضيعه الصغير وهو يقول : اللهم صبراً واحتساباً فيك
وكيف لا يكونُ صابراً محتسباً وهو من الذين عناهم الله تعالى في قوله : ( وَجَعلنا مِنهُم أئمةً يَهُدون بأمرِنا لمَّا صَبرُوا وقوله :
( وَجزاهم بِمَا صَبَروُا جَنةً وَحريرَاً )
فالحسين (عليه السلام) شخصيةٌ منفردةٌ بجميع صفات الكمال ، وتجسدت فيه كلُ صور الاخلاق ، وقد أراد (عليه السلام) أن يضفي من كماله على أصحابه وأهل بيته بوصاياه لهم بالصبر الجميل ، وتوطين النفس ، واحتمال المكاره ، ليستعينوا بذلك في تحمُّل الاعباء ومكابدة الالام ، وليحوزوا على منازل الصابرين وما أعَد اللهُ لهم.
فأما أصحابه فقد أوصاهم (عليه السلام) مراراً بالصبر والتسلُّح به في مواجهة النوائب والمحن ، والصبر على حدِّ السيف وطعن الاسنَّة وعلى أهوال الحرب.
وكما لا يخفى أن هذا ليس بالامر السهل إذ أن مواجهة ذلك يحتاج إلى التدرُّع بالصبر والحزم ، وعدم الجزع من أهوال المعركة والثبات عند القتال ، وعدم الاستسلام أو الانهزام ، فإذا ما تسلح المقاتل بالصبر كان في قمة المواجهة ، لا يبالي بما يلاقيه وما يتعرَّض إليه من ألم السنان وجرح الطعان.
ولذا نادى - صلوات الله عليه - فيمن تبعه من الناس - في بعض المنازل - قائلاً لهم :
أيها الناسُ فمَنْ كان منكم يصبر على حدِّ السيف وطعن الاسنة فليقُمْ معنا وإلا فلينصرف عنَّا
نعم هكذا قال فلينصرف عنا فإذا كان المقاتل لاصبر له على ذلك كيف يثبت في ساحة القتال حينما يرى أهوال المعركة إنّ هذا وأمثاله لا يؤمن منه الجزع ، فإما أن ينهزمَ أو يستسلم للاعداء.
وهنا لا ننسى تأكيد القرآن الكريم في هذا الجانب إذ حثّ المجاهدين في سبيل الله تعالى على التحلَّي بالصبرو والثبات في ساحة القتال قال تعالى : ( يَاأيُّها الَّذينَ آمنُوا اصبرُوا وصابروا وَرَابِطُوا ) ، وقال تعالى : ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُم عِشرُونَ صَابُرونَ يَغْلِبُوا مِائَتَينِ ) ، وقال تعالى :
( يَا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا إِذَالَقِيتُم فِئَةً فَاثْبُتُوا واذكَرُوُا اللهَ كثيراً لَّعَلَّكمُ تُفْلحِوُنَ )
ومن الواضح أن نجد الحسين عليه السلام في هذه الليلة ـ استعداداً للمواجهة ـ أن يوصي أصحابه بذلك ويرغبهم في احتمال المكاره قائلا لهم : فإن كنتُم قد وطأتم أنفسكم على ما قد وطأتُ عليه نفسي ، فاعلمُوا أن الله إنما يَهبُ المنازلَ الشريفةَ لعبادة باحتمال المكاره ، وإن الله وإن كان قد خَصَّني مع مَنْ مضى من أهلي الذين أنا آخِرهُم بَقاءً في الدُنيا من الكرامات ، بما سَهّل معها على احتمال الكريهات ، فإنَّ لكم شطرَ ذلك من كرامات الله ، واعلموا أن الدُنيا حُلوها مرٌ ، ومرُّها حُلوٌ ، والانتباه في الاخرة ، والفائزُ من فاز فيها والشقي من يشقى فيها الامر الذي أثَّر في نفُوسهم وزاد في تَحمُّلهم ، حتى أوقفهم على غامض القضاء ، وكَشف عن أبصارهم فرأوا منازلهم من الجنة وما حباهُم الله تعالى من النعيم.
كما أوصاهم (عليه السلام) بهذا أيضاً ونحوه بعد ما صلَّى بهم الغداةً قائلاً لهم : إن الله تعالى أذنَ في قتلكم وقتلي في هذا اليوم ، فعليكم بالصبر والقتال
وكذلك لما رآهم وقد تناوشتهم السيوف وقف (عليه السلام) قائلاً لهم : صَبراً يا بَني عُمومتي صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتُم هَواناً بعد هذا اليوم أبداً وكذا يوصي غلاماً له وقدوقد قطعت يده ، فضَمّهُ إليه قائلاً له : يا بن أخي اصبر قطعت يده ، فضَمّهُ إليه قائلاً له : يا بن أخي اصبعلى ما نَزلَ بك واحتسب في ذلك الخير
وفي رواية أنه لما قتل الطفل الرضيع وضع (عليه السلام) كفيه تحتَ نحره قائلاً له : يا نفس اصبري ، واحتسبي فيما أصابَكِ وأما أهل بيته وعياله فقد أوصاهم ـ صلوات الله عليه ـ غير مرة بالصبر والتقوى وعدم الجزع ، وتحمل المتاعب في سبيل الله تعالى والتوكل عليه ، والقيام بالمسئولية على أحسن حال.
ومن وصاياه لهم : ولا بدّ أن تروني على الثرى جديلاً ، ولكن أُوصيكم بالصبر والتقوى ، وذلك أخبر به جدكم ولا خُلف لوعده ، وأسلمُكم على من لو هتك الستر لم يستره أحد
ومن وصاياه أيضاً (عليه السلام) لاخته زينب ـ عليها السلام ـ وذلك حينما رآها وقد أثّر عليلها ألمُ المُصاب وحرارةُ الفراق ، أوصاها قائلاً :
يا أختاه تعزي بعزاء الله وارضي بقضاء الله
يا أخية لا يذهبنَّ حلمَك الشيطان ...
يا أُخية اتقّي اللهَ وتعزّي بعزاءِ الله ، واعلمي أن أهل الارض يَموتون وأن أهل السماء لا يبقون ، وأن كلَ شيء هالكٌ إلا وجْهَ اللهِ الذي خلقَ الارض بقُدرتهِ ، ويبعث الخلقَ فيعودون وهو فردٌ وحدَه ، أبي خيرٌ مني وأمي خيرٌ مني واخي خير مني ولي وَلهُم ولكل مُسلم برسولِ الله أسوةٌ.
قال : فعزّاها بهذا وَنحوهِ ، وقال لها : يا أخيّةُ إني أقسمُ عليك فأبرِّي قسمي ، لا تشُقي عليَّ جَيباً ولا تخمشي عليَّ وَجهاً وَلا تدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت وفي رواية ثم قال (عليه السلام) : يا اُختاه يا أمَّ كلثوم وأنت يا زينب وأنت يا فاطمة وأنت يا رباب إذا أنا قُتلت فلا تَشققنَّ عليَّ جيباً ، ولا تخمشن عليَّ وجهاً ، ولا تقلن هجراً(.
وقد أخذ (عليه السلام) في وصاياه يؤكد عليهنَّ بالصبر على الاحداث الاليمة ، والتجلد في المواقف الرهيبة والكوارث الاليمة ، وأن يتمالكن أنفسَهُنّ حين يَرينهُ صريعاً مُجدلاً.
وخصوصاً أخته زينب (عليها السلام) والتي حَمّلها مسؤليةَ حفظ الحرم والاطفال ، وقد أكّدَ عليها كثيراً بالصبر والتجلد لكي تقوم بالمسؤلية ، ولتؤدي وظيفتها على أحسن حال في حفظ ورعاية العيال والاطفال ، الذين ليس لهم مُحام ومدافع سواها ، ولكي تُشاطرَهُ في مهمته ، ولئلا يَغلب عليها الاسى في إبلاغ حجته ، وإتمام دعوته ، خصوصاً في المواقف الحرجة الاليمة في الكوفة والشام.
وَكلُّ هذا التأكيد عليها في وصاياه لها (إعلامٌ لها بتحمُّل المسؤولية وأن تكون أمام الكوارث المقبلة كالجبل الاشم ، والصخرة الصماء ، تتكسر عليها كل عوامل الذلة والانكسار ، ولا تستولي عليها دوافع الضعف ، وعوامل الانهيار ، وأن تتأسى بجدها رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وتتعزى بعزاء الله.
إنه عبءٌ ثقيل في تحمُّل مسؤولية الكفاح المتواصل لربط لربط الثورة بأهدافهاالمتوقعة وعواملها المنتظرة ، وقد تجسدت لها الحوادث بعد أن أطلعها الحسين على كثير من مهماتِها ، وَفتحَ أمامَها نوافذَ مهمة مَهّدَ لها طُرقَ التسلية عما تلاقيه فيها من بلاء وما تصطدم بها من نكبات.
ولقد كانت على موعد مع هذا الحدث العظيم ، حدثتها اُمها فاطمة الزهراء عليها السلام وسمعت من أبيها علي (عليه السلام) ، ما يدل على وقوع ذلك ، وكما لمّح لها أخوها الحسن عليه السلام بآثار الفاجعة ، وصرّح لها الحسين (عليه السلام) بدنو ما كانت تخشاه ، وحلول ما كانت تتوقعه.
ولقد تحملت مسؤولية إتمام الرسالة التي قام بها الحسين (عليه السلام) فأوضحت للعالم عواملَ الثورة ، فنبهت الغافل ، وفضحت تلك الدعايات المُضلِلة ، لقد مَثّلت زينب عليها السلام دورَ البطولة في ميدان الجهاد ، وثبتت أمام المحن والمكاره ، ثبوتَ الجبلِ أمامَ العواصف ، واحتسبت ما أصابها من بلاء في جنب الله ، طلباً لمرضاته وجهاداً في سبيله ، وإعلاءً لكلمته. لقد أدت واجبها في ساعة المحنة ، فهي تسلي الثاكل وتُصبر الطفل ، وتُهدىءُ روعَ العائلة.
وانظر إلى موقفها كيف وقفت أمام مجتمع الكوفة فحملتهم مسؤولِيةَ هذه الجريمة الكبرى ، ووسمتهُم بالذُلِ وألبستهم العار ، وكيف قابلت يزيد الماجن المستتر الطائش ، فأوضحت للملا الحادَه وكفرَه ، وسلبتهُ مواهب التفكير ، فوقف أمام قوة الايمان موقف ذلة وانكسار ، فكان النصرُ حليفَها ولا زال إلى الابد )
وتشاطرت هي والحسينُ بدعوة * حتــمَ القضــاءُ عليهما أن يُندبا
هذا بمشتبك النصولِ وهــذه * في حيث مُعترك المكاره في السبا
الحمدلله رب العالمين