انا بغداد .. وهذه قصتي
بغداد هذا هو أسمي .. رددوه معي في قلوبكم .. بغداد .. ب غ د ا د ..
أنا بغداد كنت ملكة تفترش عرشها متسربلة بثياب بيض .. متزينة بالذهب والجواهر .. متوجة بتاج الملك والجمال والعزة .. متعطرة برائحة الورد والليمون .. مخضبة يداي وقدماي بأجود أنواع الحناء .. كانت تضاء حولي الآف الشموع والقناديل التي تضاهي بنورها وهج الشمس وضياء القمر والنجوم مجتمعة .. كنتم أنتم مثل الفراشات والحمام الأبيض تحلقون حولي وفي سمائي .. أباهي الدنيا بكم وتتباهون بي .. أتبغدد فتتبغددون معي أمام العالم بأسره .. كنت أسكن في قلعة يحرسها الآف الفرسان الشجعان الذين يحمون عرشي ويذودون عن شرفي وكرامتي .. كل مدينة كانت لها ليلة وكانت لي أنا الف ليلة وليلة .. كل مدن الدنيا بناها عابرو سبيل أو فلاحون أو رحالة تجار وأنا بناني وأعلاني أعز الملوك والأمراء .. كنت كل صباح أرفع عيني الى السماء وأسأل : هل هناك من هي أجمل وأبهى مني أنا بغداد فكان يأتيني صدى صوت قوي واثق .. لا أجمل ولا أبهى ولا أروع منك يا بغداد ..
وذات يوم وكعادتي كنت أسأل : هل هناك من هي أجمل وأبهى مني أنا بغداد فكان صوت غريب لم يألفه سمعي .. صوت تقشعر له الأبدان يهمس بخبث في أذناي : أنا أجمل منك يا بغداد .. أنا سأجلس على عرشك يا بغداد .. قومي .. أنزلي .. هاتي التاج .. أبيت ورفضت وبكيت وصرخت أنا بغداد .. أنا بغداد التي سيهب لنجدتها الآف الفرسان من كل البلدان ، فرد الصوت ساخرا" سوف أسجنك وأسكنك في الظلمات وأجعلك منسية بين مدن كل البلدان .. سوف أجلس على عرشك وأجمع حولي المغنين والشعراء وسأكون أنا الألف وأنت الياء ..
كبلت يداي وقدماي بسلاسل قوية وحبست في ظلمة وأصبحت أسيرة .. أسيرة الجوع .. أسيرة العطش .. أسيرة الشوق الى نور الشمس .. كل يوم كنت المس وجهي وجسمي وشعري وأتساءل : هل ما زلت جميلة ونضرة وبهية يا بغداد .. هل ما زال شعرك مثل أمواج الحرير وخداك مثل فلقة الرمان .. هل ما زالت الحناء تزين يداي وقدماي .. ومرت أيام وأيام الى أن جاء
ذلك اليوم الذي لمست فيه أبواب سجني أيدي خفية فكت الأقفال وفتحت لي الباب وصوت غريب دعاني وقال : أخرجي يا بغداد .. لا تخافي نحن أهلك يا بغداد .. ركضت الى الباب .. أندفعت الى الخارج .. رفعت عيني الى السماء ضحكت بأعلى الصوت وبكيت بأنهار من الدموع .. مددت نحوكم ذراعي وتقدمت اليكم لأخذكم في الأحضان .. لأقبلكم .. فتحملوني الى عرشي وتعيدون الى رأسي التاج وتحلقون حولي ثانية ونعيش الحياة .. ولكن في غفلة مني وفي غمرة نشوتي وفرحي شعرت بأيدي تلمسطرف ثوبي وترفعه عاليا" وتعري جسديأمام العالم أجمع .. ترنحت .. ركعت .. توسلت .. حاولت سحب ثوبي وستر نفسي ولكنكم مزقتم الثوب .. صرخت صرخة مرة عظيمة أنهار معها الكون .. شعرت بأن عار الدنيا غطاني .. طأطأت الرأس ودفنت الوجه في التراب .. أنا لم أعد بغداد .. لم أعد أبهى وأجمل وأشرف الملكات .. لم أعد أتبغدد أمام الدنيا لأن الدنيا كلها رأت عورتي وسخرت مني ..
أيها العراقيون ربما سأغفر لكم لأنكم سجنتموني وربما سأغفر لكم لأنكم جوعتموني وربما سأغفر لكم لأنكم أعطشتموني وسرقتم التاج مني ولكني أقسم وأقسم أني لن أغفر لكم لأنكم عريتموني وكشفتم عورتي أمام العالم وجعلتموني مثل الزانية ..
أيها العراقيون لا أريد بعد اليوم منكم أية قصائد شعر .. لا قصائد حب لأنكم لا تعرفون الحب ولا قصائد رثاء لأنكم قساة وظلمة لا تعرفون الرحمة ولا قصائد فخر ومديح لأنكم لم تبقوا لي ما يمدح ..
أيها العراقيون لا أريد منكم أن تضيئوا حولي الشموع والقناديل بعد الآن لأن الظلام الذي فيكم طغى على نور الشمس نفسها ولأن الظلام الذي زرعتموه في نفسي لا نهاية له ..
أيها العراقيون لا أريد أن تخضبوا يداي وقدماي بالحناء لأنهما وجسدي كله قد خضب بدماء أطفالكم الزكية الذين قدمتموهم قرابين لشهواتكم ورغباتكم وأطماعكم القذرة كما كانت تقدم القرابين للأصنام ..
أيها العراقيون لا أريد أن تزرعوا حولي الورود وأشجار الليمون لأن رائحة أفعالكم النتنة غطت على عطر زهور الدنيا كلها ..
أيها العراقيون لا أريد أن تنطقوا أسمي على لسانكم وشفاهكم البتة لأني لا أريد لحروف أسمي أن تختلط برائحة أفواهكم المليئة بالحقد
..
أيها العراقيون لا أريد أن تحلقوا حولي بعد الآن لأنكم لم تعودوا فراشات ملونة أو حمام أبيض وأنما مجرد عقارب وحيات ..
آه .. آه أيها العراقيون كم أتمنى أن أمحى من الوجود .. أن يدمرني زلزال أو أن يلفني أعصار أو تحرقني نار هائلة .. أريد أن أدفن وأخلص من هذا العار ..
أبعدوا عني .. أتركوني .. أنسوني .. لم أعد بغدادكم .. أذهبوا الى مدن العالم وغنوا لها وأقبضوا الثمن .. وأنا سأبقى هنا دافنة الرأس في التراب لا أرجو منكم شيئا" .. سأنتظر رحمة من السماء .. سأنتظر يد الله التي ستنتشلني من هذا القاع .. تمسني فتعود لي طهارتي
ويذهب عني العار وستحملني الى عرشي وتعيد لرأسي التاج .. وسأعود كما كنت .. سأعود بغداد .. عندها سترجعون كلكم الي .. ستندمون وستتوسلون رضاي .. عندها ماذا ستتوقعون مني ؟ هل هو الغضب أم الأنتقام .. هل هو السخرية منكم أو الجفاء ؟ أنه ليس هذا ولا ذاك .. أنه حب الدنيا الذي سأغمركم به وأخذكم في الأحضان .. سأحضنكم جميعا" بلا تفرقة لأني أنا بغداد ولن أكون الا بغداد .. ولا أستطيع أن أكون الا بغداد ..