سوق الغَزِلْ.. عساها آخر الأحزان!


المدن بتاريخها، عبر كتاب، أو حائط، أو حجرة مركونة شماء طلاً وسط الخراب. ولا أرى الجواهري قالها ترفاً وهو يتعقب خطوات أقدام أبي محسد المتنبي (قُتل 354هـ)، حيث ولادته بحي كندة بالكوفة: «كنت أقف على ما تبقى من دقائق الأحجار المتناثرة على أطراف مسجد الكوفة، وأنا أقلبها الواحدة بعد الأخرى، وكأنني أريد أن اشم روائح عطرها»(ذكرياتي)؟ هذا ما يمكن قوله أيضاً عن سوق الغَزِل ببغداد، وهو مكان شُيد فيه جامع الخليفة، حيث كانت «تُقرأ عهود القضاة، ويصلى على جنائز الأعيان والعلماء، وتعقد فيه حلقات الفقهاء والمناظرين» (سوسه وجواد، دليل خارطة بغداد).

شيد الجامع علي المكتفي بالله (ت 295هـ)، ثم ارتفعت منارته في الفضاء (479هـ)، وعدَّ سقوطها (670هـ) من دون إيذاء المصلين في صلاة التراويح كرامة لها، وجددت في السنة نفسها، من قِبل ابن هولاكو، قبل إسلام المغول. وبعد خراب الجامع أعادت بناءه امرأة مغولية (763هـ). ونجد في تاريخ المكان إشارة حية إلى التعايش الديني، حيث اشترى أحد القساوسة السنة 1731 بيتاً بسوق الغَزِل من رجل كلداني واتخذه ديراً، «وقد وسعه المطران كوبري سنة 1829، فكان هذا المعبد ملتقى المسيحيين» (حداد، كنائس بغداد وأديرتها).

وبعد انهيار الجامع، من جديد، شيد الوالي العثماني (1779) محله جامعاً، عُرف بجامع سوق الغَزِل، حتى أُزيل السنة 1957 لأجل شارع الجمهورية. وما خص المئذنة، فلاعتراض وجهاء بغداد، ومنهم العلامة محمود شكري الآلوسي (ت 1924)، امتنع حاكم بغداد البريطاني عن هدمها، واكتفت بلدية بغداد بتقوية قاعدتها، وحفظت مديرية الآثار جزءها العلوي من الهدم. وبعدها أُعيدت عمارة الجامع، ليأخذ اسم جامع الخليفة، وتولى المعمار محمد مكية مهمة التصميم (السامرائي، مساجد بغداد الحديثة). ما تقدم كان سجلاً مختصراً لتاريخ مترات من أرض بغداد الغنية بالأثر.

وعودة على بدء، تجد كل حجرة بالمكان قد تكلست على لمسة يد خليفة، أو فقيه، أو راهب، تكلس بيضة الديناصور وتخشبها. اتصل المكان بسلسلة أسواق بغداد. قال ابن الأثير (ت 630هـ): «احترق سوق الطيوريين، والدور التي تليه مقابله إلى سوق الصفر الجديد» (الكامل في التاريخ). ويُخيل لي ليس سوق الصفر سوى سوق الصفافير الحالي، وليس سوق الطيوريين سوى سوق الغَزِل المنكوب يوم الجمعة 23 نوفمبر الماضي. وعُرف بسوق الغَزِل منذ عهد المغول، ولقبت به المحسنة مخدوم شاه (الأيكجية)، وهي التي أحيت المكان بعمارة بعد موات، ولها مآثر أخرى: دار شفاء، ومدرسة على جبهة دجلة. ومعنى (الأيكجية) أصحاب المغازل، وتلك كانت محلتهم، والسوق سوقهم (العزاوي، العراق بين احتلالين). يقع السوق بجوار محلة صبابيغ الآل، حيث دار الخلافة وجامع الخليفة، ومَنْ يقرأ تاريخ هذه المحلة يجدها ولدت أعلام علم وإدارة وطبابة وسياسة وعِمارة، مع أنها اليوم بقية خرائب! ويجمع المكان بين صناعة الغَزِل وبضاعة الطيوريين: الحمام وكائنات مخيفة وأليفة. ومنذ القِدم يجتمع الباعة والمشترون والمتفرجون في هذه السوق أيام الجُمع، يحاذرون من نقرة طائر، أو عضة أفعى، أو صفعة قرد يفلت من قراده، هذه هي المحاذير من سوق الحيوان والطيور، حتى أُخذوا غفلة بانفجار هائل، رُكن بخبث لا يقل عن خبث الأفاعي والتماسيح، حيث الكمين في قفص الطير.
كان الحادث من حوادث المناسبات: موسم زيارة، وأحد قداس، وجمعة سوق! صحيح أن فقهاء لا يقبلون شهادة فئة الطيوريين، وإذ حرم الخليفة المقتدي بالله السنة 467هـ هوايتهم، إلا أن الخليفة الناصر لدين الله (ت 622هـ) أمر قاضي قضاته ورئيس الفتوة ببغداد أن يجعلا الحمام اثنى عشر صنفاً تيمناً بالاثني عشر إماماً. وطيرها من المراقد المقدسة بكربلاء والنجف إلى بغداد (سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان). وأجد في ممارسة الناصر، وغيرها من الموثقات لخلفاء ووزراء، ما يكفي ألا يؤخذ التاريخ بمجمله على أنه تاريخ تكاره طائفي بين السلطة والشيعة، بل هناك فسح من المواءمة والمصالحة. على أية حال، قُتل الكثيرون، وفجرت أمكنة كثيرة بفعل طائفي، إلا الأسواق فأمرها آخر، فهي محط أقدام لا تميز بين دين ومذهب. كان قتل الطيوريين فعلة غبية وعقيمة الثمر لساستها، وسيسفر كشفها عن وهم التكاره بين شيعة وسُنَّة، من مربي حمام، أو زراع أرض، أو أصحاب أقلام، فكم من يد سُنَّية أبادت أهل السُنَّة، وكم من يد شيعة تلوثت بدماء الشيعة! وعساها آخر الأحزان. وهي قولة اختص العراقيون بتقديمها في التعازي عن سواهم! على الرغم من معاكستها للمألوف!