الشفاعة هي: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
والشفاعة حق، وهي ما يعتقد به المسلم من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف للفصل بينهم، وشفاعته في دخول الجنة، وتشفعه لمن يستحق أن يدخل النار أن لا يدخلها، كما يعتقد المسلم أيضاً أن هناك شفاعة للملائكة وللشهداء في أهلهم، وشفاعة للصيام والقرآن وغيرها.
واعلم -رحمك الله- بأن للشفاعة شرطين لابد من تحقيقهما جميعاً حتى يتحقق المقصود يوم القيامة، وهما:
الشرط الأول: الإذن من الله عز وجل:
قال تعالى: ((يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)) [طه:109].
قال الشيخ محمد باقر الناصري:
وصف سبحانه القيامة يتبعون صوت داعي الله الذي ينفخ في الصور وهو إسرافيل، لا عوج لدعاء الداعي ولا يعدل عنه أحد، وهناك خضعت الأصوات بالسكون لعظمة الرحمن، فلا تسمع منهم إلا همساً، ولا تنفع في ذلك اليوم شفاعة أحد، إلا من أذن الله له أن يشفع ورضي قوله من الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء[مختصر مجمع البيان: (2/320)].
بل إن الله سبحانه نفى أن يكون لأي مخلوق أدنى شفاعة يوم القيامة إلا بعد إذنه سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)) [البقرة:255].
قال أبو جعفر الطوسي:
إن أحداً ممن له شفاعة لا يشفع إلا بعد أن يأذن الله في ذلك ويأمره به، فأما أن يبتدئ أحد بالشفاعة من غير إذن، كما يكون فيما بيننا، فليس ذلك لأحد[التبيان في تفسير القرآن: (2/308)].
ويا حسرة من يظن أن هناك مخلوقاً بإمكانه الشفاعة أو النصرة لمن يدعوه من غير إذن الله له.
قال تعالى: ((لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) [الأنعام:51].
قال الشيخ محمد السبزواري النجفي:
فقد حصر الولاية به سبحانه، ثم الشفاعة التي أوردها بصيغة المبالغة ليهتم الناس بها، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته يشفعون من بعد إذنه سبحانه[الجديد في تفسير القرآن: (3/34)].
وقال السيد محمد الحسيني الشيرازي:
وليس المراد أن الله يشفع، إذ لا معنى لشفاعته، بل المراد أن الشفاعة بيده، فلا يشفع أحد إلا بإذنه[تقريب القرآن: (7/92)].
الشرط الثاني: الرضا عن الشافع والمشفوع له:
قال تعالى: ((وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)) [النجم:26].
قال السيد محمد الطبطبائي:
الفرق بين الإذن والرضا أن الإذن إعلام ارتفاع المانع من قبل الآذن، والرضا ملاءمة نفس الراضي للشيء وعدم امتناعها، فربما تحقق الإذن بشيء مع عدم الرضا، ولا يتحقق رضا إلا مع الإذن بالفعل أو بالقوة، والآية مسوقة لنفي أن يملك الملائكة من أنفسهم الشفاعة مستغنين في ذلك عن الله سبحانه، كما يروم إليه عبدة الأصنام؛ فإن الأمر مطلقاً إلى الله تعالى، فإنما يشفع من يشفع منهم بعد إذنه تعالى له في الشفاعة ورضاه بها، وعلى هذا فالمراد بقوله: ((لِمَنْ يَشَاءُ)) الملائكة، ومعنى الآية: كثير من الملائكة في السموات لا تؤثر شفاعتهم أثراً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء منهم -أي: من الملائكة- ويرضى بشفاعته[الميزان في تفسير القرآن: (19/41)، وانظر: تفسير جامع الجوامع: (4/620)، كنـز الدقائــق: (21/497)، مقتنيات الدرر: (10/272)، الجديد: (7/49)].
وهذه الشفاعة المباركة لا تتحقق لكل مخلوق، بل هي مقتصرة على فئة معينة دون غيرهم.
قال تعالى: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)) [المدثر:48].
قال مير سيد علي الحائري الطهراني:
لو اجتمع الأنبياء والملائكة على شفاعتهم لا تنفعهم تلك الشفاعة، وليس المراد أنهم لا يشفعون لهم، إذ الشفاعة موقوفة بالإذن وقابلية المحل، فلو وقعت من المأذون للقابل قبلت، والكافر ليس بقابل لها، فلا إذن في الشفاعة له ولا شفاعة، فلا نفع في الحقيقة[تفسير مقتنيات الدرر: (11/299)].
وقال الشيخ محمد باقر الناصري:
شفاعة الأنبياء والملائكة لا تنفع الكفار المنكرين، وإنما الشفاعة للمؤمنين الموحدين[مختصر مجمع البيان: (3/496)].
وما من شفاعة إلا بيده سبحانه، ولا تقع إلا بعد إذنه لمن يشفع.
قال تعالى: ((قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً)) [الزمر:44].
قال الشيخ محمد السبزواري النجفي:
لا يشفع أحد إلا بإذنه، ولا يملك أحد الشفاعة إلا بتمليكه، والذي على هذه الصفة لا يقدر أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه؛ فإن أزمة الأمور كلها بيده[تفسير الجديد: (6/171)، وانظر: تفسير التبيان: (9/33)]
وقال السيد محمد تقي المدرسي:
يزعم البشر أن باستطاعته التهرب من المسؤولية بسببهم، وذلك بإلقاء مسؤولية ضلاله وانحرافه عليهم، كأن يلقي بمسؤولية انحرافه وضلاله على والديه، أو السلطات الحاكمة، أو المجتمع، ولكن الله ينسف فكرة الشفاعة عموماً، فيقول: ((أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ)) [الزمر:43] كالنفع والضر والموت والحياة، أو أقل من ذلك؛ لأن الملك كله لله عز وجل، ((وَلا يَعْقِلُونَ)) [الزمر:43] لأنهم لو كانوا يعقلون لم يكونوا ليأمروا بما يخالف رضا الله تعالى، فهم إذن لا قوة لهم ولا علم، ومن يكون هكذا لا يكون شفيعاً.
إن الشفيع الحقيقي هو الله الذي بيده ناصية كل شيء، وإذا كان ثمة آخرون فإنما يشفعون بإذنه، فإذا أراد البشر أن يفر من عذاب الله فليهرب إليه تعالى، فليس من ملجأ منه إلا إليه، وكلنا يخشى من ذنوبه ولن نجد غافراً للسيئات التي احتطبناها سوى الله , ومن عادة البشر أنه إذا أذنب ذنباً حاول تبريره، أو اخترع لنفسه شفيعاً يزعم أنه سوف يخلصه من ذنبه، والله يقول له: لماذا تذهب هنا وهناك؟ تعال إليّ، حتى ولو كنت مذنباً تعال، فأنا الذي أخلصك من الذنب، لا أولئك الشفعاء، ولا تلك التبريرات فالله هو الشفيع حقاً؛ لأنه هو السلطان في السموات والأرض، فهو الذي يدبر الأمور اليوم، وإليه المصير، حيث الحساب الدقيق والجزاء الأوفى[تفسير من هدي القرآن: (11/498)] انتهى.
مع ذلك فإننا نرى كثيراً من الناس -هداهم الله للحق- يسافرون إلى أضرحة الأولياء والصالحين طالبين منهم الحاجات، ويتقربون إلى الله بشفاعة هؤلاء الصالحين وبمحبتهم لهم بأن يقضوا حوائجهم؛ وينسون أن الله ليس بينه وبين خلقه واسطة، بل يدعى سبحانه مباشرة، فيكشف الضر ويجيب المضطر، أو قد يؤخر الإجابة لحكمة منه، أو يؤخرها له يوم القيامة، أو يدفع عنه من الشر مثلها، والداعي في كل هذه الأحوال في عبادة لله، كما قال جلَّ ذكره: ((وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60] فسمى الدعاء عبادة, وما حال أولئك الذين يسافرون إلى الأضرحة والقبور ويطلبون حاجاتهم من الأولياء والصالحين إلا كحال عبادة النصارى وتشفعهم بعيسى ابن مريم، وكحال العرب في الجاهلية بتشفعهم وتقربهم إلى الله بأضرحة الصالحين وتماثيلهم.
وهؤلاء وصفهم الله بقوله: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18].
وقد أنكر عليهم سبحانه وتعالى، فقال: ((قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [يونس:18] أي: أن الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى وسيط أو شفيع ليرفع إليه حاجات الخلق؛ لأنه لا يخفى عليه شيء من حال عباده، بل أنكر عليهم التوسط بالأولياء والصالحين، وأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، بل هم يتقربون إليه بالأعمال الصالحة خوفاً من عذابه ورجاء رحمته، فقال تعالى: ((قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)) [الإسراء:56-57].
وقال الحاج سلطان الجنابذي أيضاً:
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الأصنام والكواكب عبادة العبيد، ومن الأهوية والآراء والشياطين عبادة اتباعية، ومن غير من نصبه الله من رؤسائهم الدنيوية أو رؤسائهم الدينية بزعمهم عبادة طاعة، والمقصود من نفي الضر والنفع نفي ما يتوهمونه ضراً ونفعاً مما يؤول إلى دنياهم من غير نظر إلى عبادتهم، وإلا فهي عبادتهم إياها، تضر غاية الضرر، ويقولون: ((هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18] كما يقول الوثني: إن أصنامنا شفعاؤنا عند الله، وكما يقول أكثر الصابئين: إن الكواكب شفعاؤنا، والبعض يقول: هي قديمة مستقلة في الآلهة، كما يقول الزرداشتيون: النار تشفع لنا عند الله، وكما يقول المطيعون لمن يزعمونهم رؤساء الدين: هؤلاء وسائط بيننا وبين الله وأسباب قربنا إلى الله، والحال أنها وسائل الشيطان وأسباب القرب إلى الجحيم والنيران[تفسير بيان السعادة: (2/296)].
وقال الشيخ محمد السبزواري النجفي أيضاً:
يدعون أنهم بعبادتهم لها تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم عنده، وأنه هو أذِن لهم بعبادتها وسيشفعها بهم يوم القيامة، وتوهموا -بعقيدتهم القبيحة- أن عبادة الله من خلالها تكون أشد تعظيماً لله، فاجتمع عندهم قبح القول وقبح العمل[تفسير الجديد: (3/411)].
فإذا كان هذا هو تمام القول في المعتقد الصحيح في قضية الشفاعة، التي نسأل الله أن نكون من أهلها ليجيرنا من نار جهنم، فهل تسألها أيها العبد -المحب للنبي وأهل بيته عليهم السلام - من الله الذي بيده كل شيء أو تسألها ممن لا يملك لنفسه شيئاً؟