أجل إن أصغيت إلى ما يقوله هؤلاء الحكام؛ تجدهم يتكلمون بالإسلام، وتجدهم يتباهون به، ويرفعون الرأس عالياً بمبادئه، هذا حديث الفكر، أما القلب ففارغ عن محبة، وعاء فرغ نهائياً من محبة الله ثم فاض بمحبة الأغيار، بمحبة الدنيا وما إلى ذلك، غيبوبة محبة الله التي هي روح الإسلام هي التي فرقتهم، ومن ثَمَّ فهي التي بعثت هذه المشكلة فيما بيننا، سلبتنا حقوقنا، جعلت الاغتصاب أمراً سهلاً بالنسبة لهؤلاء الناس، جعلت التقتيل والتنكيل أشبه ما يكون بشرب الماء البارد عل الظمأ، أجل.
مشكلة اتخاذ الدين مطية للدنيا، مشكلة اللعب بالدين ورقة من أجل الوصول إلى المغانم الدنيوية مردّها إلى غياب هذا الحب، أَنظر - أيها الإخوة - إلى كثير من الأنشطة الإسلامية، وأتأمل فأجد هذه الأنشطة تستخدم وتسخّر للمصالح، تستخدم وتسخّر للمغانم الدنيوية، ماذا أقول أيها الإخوة؟ كنا في صدر الإسلام، ونحن نتأمل في ذلك التاريخ الأغر، نجد أن الفتاوى أثقل ما تكون على لسان الإنسان المؤمن الخائف من الله عز وجل. يقول أبو بكر: ((أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)). وهو من؟ أبو بكر. يأتي رجل من أقصى المغرب إلى دار الهجرة، إلى المدينة المنورة، فيلقى إمام دار الهجرة مالكاً رحمه الله تعالى، يقطع مسافة ستة أشهر إلى الإمام مالك وقد حمل إليه طائفة من الأسئلة والاستفتاءات، سأله عنها، أجابه عن طائفة يسيرة منها وقال له عن باقي تلك الأسئلة: لا أعلم، لا أعلم، لا أعلم. قال له الرجل: جئتك من مسافة ستة أشهر لأسمع جواب هذه الأسئلة التي كلفت أن أسألك عنها فماذا أقول إن عدت إلى هؤلاء الذين أرسلوني إليك؟ قال: قل لهم يقول مالك: لا أعلم. نعم. هكذا كان الدين ثقيلاً، وهكذا كانت مهابة الباري عز وجل على القلوب المحبة لله عظيمة جداً، ومن ثَمَّ فكان لسان المسلم يتلجلج عندما يستفتى قبل أن يفتي.
واليوم ماذا نجد؟ نجد الفتاوى التي تسوّق حسب الطلب، نجد الفتاوى العجيبة التي تغيّر وتبدّل من دين الله عز وجل بكل بساطة وبكل يسر، وأنظر إلى ذلك الرعيل الذي كان يهاب ويرهب من اقتحام الفتوى ببيان أحكام الله عز وجل، وأقارن بأناس لايبلغ علمهم معشار أولئك العلماء يغمض أحدهم عينيه ليقتحم الجواب بكل بساطة، وليت أنه جواب يحافظ على دين الله، بل هي أجوبة تمزق شرع الله سبحانه وتعالى.
ما سمعنا في صدر الإسلام، وخلال الأجيال المتصرمة إلى يومنا هذا بما يسمى: (فقه الأقليات) ما سمعنا في دين الله أن في شريعة الله فقهين: فقهاً للمسلمين في بلادهم الإسلامية، وفقهاً آخر للمسلمين عندما يوجدون في بلاد أخرى غير البلاد الإسلامية، واليوم نفتح أعيننا لنرى ميلاد فقه آخر وجديد اسمه: (فقه الأقليات)، ونتأمل في فقه الأقليات هذا، وإذا بأحكام الشريعة الإسلامية كلها تتبخر رويداً رويداً رويداً. أصبح نكاح الكافر من المرأة المسلمة نكاحاً صحيحاً وهو النكاح الباطل في نص كتاب الله سبحانه وتعالى وما اتفق عليه الأئمة. أصبح الربا المحرم حلالاً، أصبحت المختنقة ذبيحة مذكاة تؤكل، أصبح التعامل مع الخمور في أماكن بيع الأمتعة ونحوها شيئاً سائغاً، ذلكم مثال تفقه الأقليات. وإن المسلم ليتساءل أيها الإخوة: إذا كان هناك فعلاً فقه اسمه (فقه الأقليات) ففيم هاجر المسلمون في صدر الإسلام من بلاد الكفر ما دام فقه الأقليات يقول لهم: ابقوا حيث أنتم وهاهو ذا فقه الأقليات يعطيكم حق البقاء في دور الكفر. أجل، كان ينبغي أن يبقوا حيث هم في دار الكفر، ولايهاجروا، وأن يلتجئوا إلى فقه الأقليات الذي يبيح لهم كل محرم، ويفتح لهم السبيل إلى كل ماتتشهاه قلوبهم ونفوسهم. لكنهم هاجروا إلى حيث لايبدلون أحكام الله شروى نقير، وكان رسول الله في مقدمتهم.
واليوم ننظر وإذا بأحكام الشريعة الإسلامية - بسرعة غريبة جداً - تتبدل ثم تتبدل ثم تتبدل. لماذا يحصل هذا؟ لأن روح الإسلام غابت، وأعود فأقول لكم: ماهي روح الإسلام أيها الإخوة؟ هي حب الله، حب الجليل، وتحقير القليل. حب الجليل هو الله، وتحقير القليل ألا وهي الدنيا، أنا عندما تغيب عن مشاعري محبة الله، ما الذي يحل محلها؟ محبة الشهوات، الأهواء، وعندئذ أستعمل الإسلام مركبة لتوصلني إلى الغنى بعد الفقر، لتوصلني إلى الرئاسة، لتوصلني إلى إرواء مشاعر العصبية، لتوصلني إلى أغراضي الدنيوية، أركب مطية الإسلام لتوصلني إلى هذه الأهداف، هذه المشكلة الأخرى، أيضاً سببها غياب الحب