من الأمهات المثاليات في البصرة
حكاية المرأة الحديدية التي خدمت شط العرب
ملف خاص نشرته جريدة المستقبل العراقي بعددها الصادر ببغداد في 8/7/2012
كاظم فنجان الحمامي
لا ينقطع عطاء أمهاتنا المثاليات عن التضحية, ولا ينضب صبرهن الطويل المفعم بعواطف الأمومة الصادقة, فعطاؤهن نهر خالد, وقصص كفاحهن سجلها التاريخ بأحرف من نور, تحدين الصعاب, ودحرن الظروف القاهرة من أجل الارتقاء بأبنائهن إلى سلم المجد, فالأمومة أعظم هبة خص الله بها المرأة, حتى قالوا: إن قلبها من روائع خلق الله, فالأم المثالية هي المرأة المباركة, أينما حلت, وحيثما ذهبت, متميزة في بيتها, وفي رواحها وترحالها, متميزة مع زوجها وأبنائها, وما أكثر أمهاتنا المثاليات اللواتي يسرني أن أتحدث عنهن, وأشير إليهن بالفخر والاعتزاز في كل مناسبة, لكنني أحببت أن أتحدث هذه المرة عن العمة (أم مؤيد), التي كرست حياتها كلها لخدمة عائلة كبيرة احترفت الملاحة في شط العرب منذ عام 1936وحتى يومنا هذا. .
فازت هذه المرأة الحديدية بحبنا جميعا, ونالت احترامنا وتقديرنا, وكانت لها إسهامات وإبداعات ومواقف رشحتها لتكون محورا لموضوعنا هذا اليوم. .
سليلة الدوحة الهاشمية
ولدت الحاجة (أم مؤيد) ببغداد (سوق حمادة) في عقد العشرينات من القرن الماضي, وأبوها هو السيد foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/? بن السيد عبد اللطيف الهاشمي السامرائي, ملازم أول في الجيش الانكشاري, من دفعة رئيس الوزراء نوري السعيد, ثم انتقلت مع والدها إلى البصرة بعد تسريحه من الخدمة العسكرية, وشاءت الأقدار أن تتزوج في منطقة (السِيف) على ضفاف نهر العشار يوم 10/10/1940 من المرشد البحري الشاب (محمد محمود داغر), وهو الابن البكر لتاجر خيول يعمل في منطقة (نضران) قرب منزل السيد طالب النقيب. .
كانت لزوجها رفيقة درب, تعينه على النوائب, تزيح عنه الأعباء الثقيلة, وهي أيضا صديقة مخلصة له, وزوجة فاضلة, شاركته أفراحه, ساندته في أحزانه, ناضلت معه عثرات الزمان وصعابه, أنجبت له كوكبة من الرجال, أولهم (محمود), الذي وافته المنية قبل سن الرابعة, ثم أنجبت ابنها (مؤيد), ومن بعده (موفق), و(مظفر), و(سناء), و(داغر), و(محمود الثاني), و(منقذ), و(المنتصر), كرست عمرها كله في تربيتهم وتنشئتهم على الأسس التربوية الصحيحة, أضفت على حياتهم سرورا وبهجة, جعلت في قلوبهم سلاما وخضوعا لكلمة الله, هي في شخصها معلمهم الأول, وهي سبيلهم إلى الاستقامة, أسست نخبة من الضباط والمهندسين والأساتذة والملاحين, غزلت لهم بيدها أجمل ما كانوا يرتدون من ملابس وقبعات ووسائد وأغطية, أعدت لهم أشهى الأطعمة, سهرت على راحتهم, هونت لهم الصعاب في الأزمات التي كانت تداهمهم بين الفينة والفينة, أعطتهم الأولوية, وفضلتهم على نفسها. .
انتقلت مع زوجها إلى دارهم المينائية الجديدة في الحي الصيني (تشاينا كامب) بالمعقل, ثم إلى بيتهم الثالث في دور (المحطة), ثم إلى بيتهم الرابع في شارع النهروان قرب السينما الصيفي, وأخيرا استقر بها المقام بدارها العامرة في حي الأندلس. .
المدبرة الحكيمة
كانت خير من يجيد الخياطة المنزلية, فنانة في التطريز, بارعة في الحياكة بكل أنواعها, ماهرة في المطبخ, تحلب أبقارها في الصباح الباكر, لتجهز المائدة بالزبد والحليب واللبن والقيمر (القشطة), تتفقد دجاجاتها من وقت لآخر, لتملئ سلتها بالبيض الطازج, تعجن وتخبز في تنورها الطيني خلف الدار, تقطف الخضروات من حديقتها المنزلية, تنتقي أجود أنواع التين والزيتون والبمبر من الشجيرات المحيطة بسياج حديقتها, لتعد الفطائر والمربى والمخللات المنزلية (الطرشي), غرست حديقتها (في بيت المحطة) بالباذنجان والباميا والطماطم والفلفل والخيار والبطيخ والتوت والتفاح البري, كانت حدائق المعقل في خمسينات القرن الماضي غنية بثمارها, مزدانة بخضرواتها, باسقة بنخيلها, لم تكن (أم مؤيد) بحاجة للتبضع من سوق (خمسين حوش), لكنها كانت تفضل السير على الأقدام في ذهابها وإيابها كلما دعتها الحاجة للتسوق, فتعود مسرعة إلى قلعتها لتشرف على عناصر ثكنتها الصغيرة, تراقب الجميع, تشرف على تدريس الصغار,
وتوفر الأجواء المريحة لزوجها الكابتن البحري بعد عودته مجهدا من نوبات الإرشاد المرهقة, كان زوجها أوربي الطباع, يحترم الوقت, ويؤدي واجباته الوظيفية على الوجه الأكمل, ينام ويستيقظ ويأكل ويشرب الشاي في مواعيد ثابتة, كنت أزوره مع الكابتن نزار ظاهر رحمه الله في منزله الجميل بحي الأندلس بعد إحالته إلى التقاعد, أراقبه ببدلته الأنيقة الزرقاء المخصصة للعمل, ينتعل حذاء السلامة, يضع على رأسه قبعة حديثة تقيه حَر الشمس, يحمل بيده اليمنى عدة العمل, التي كانت تضم أدواته الحقلية المخصصة لتقليم الأشجار وتشذيبها, وتسوية التربة وإروائها والعناية بها, عنده عدة أخرى لإصلاح العطلات المنزلية الطارئة, يميل إلى تطبيق قواعد الانضباط المنزلي, في اللياقة والكياسة, بيد ان إدارة المنزل, وما يتعلق بشؤون الأولاد والأحفاد كانت حكرا على الحاجة (أم مؤيد) حتى يومنا هذا. .
زرتها قبل بضعة أيام برفقة الكابتن علي حازم فوجدتها بطلعتها البهية, تقرأ القرآن, تختمه مرة واحدة في الأسبوع, تتابع برامج الأسرة التي تعرضها الفضائيات, تهوى حل مسابقات الحروف المتقاطعة كلما سنح لها الوقت, لا تزال تمتلك ذاكرة فولاذية, حتى تكاد تكون أرشيفا حيا في التاريخ الملاحي لشط العرب, كنت بحاجة إليها لمراجعة كتابي الجديد عن العوائل العراقية التي احترفت الملاحية في البصرة, لم أكن أتصور إنها بهذه الدقة في توثيق بعض الحقائق الغائبة, كانت أشبه بسجل مفتوح للوقائع والأحداث, التي رافقت حياة زوجها الكابتن الأقدم (محمد داغر), وشقيق زوجها الكابتن (شاكر), ونجلها الكابتن (مؤيد), ونجلها الأصغر الكابتن (منتصر) وحفيدها الكابتن (مهند), وابن شقيقها الكابتن (علي حازم), وابن شقيقها (ليث) المدير المفوض لشركة بحرية كبيرة, وابن شقيقها الكابتن (محمد), كان كل من هؤلاء امتدادا للآخر, وكانت (أم مؤيد) هي الحاضنة التي وفرت الرعاية والعناية لسبعة من الملاحين الكبار, الذين عملوا في شط العرب, ودافعوا عن حياض المياه الإقليمية العراقية, وهي التي رصدت كل شاردة وواردة ببصيرتها الثاقبة, ولسنا مغالين إذا قلنا إنها تعد مرجعا نادرا في سرد بعض الأحداث البحرية التي واكبت حياة زوجها وحياة أبنائها وأحفادها. .
بيت وأكاديمية وسفينة
بفضل حكمتها, وبعد نظرها, وحسن تعاملها مع أسرتها, كانت كما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق, فقد تخرج في مدرستها المهندس المتفوق على أقرانه في وزارة الصناعة (داغر), والمهندس البارع في شركة نفط الجنوب (الشهيد المظفر), والتدريسي المتميز الدكتور (منقذ), ورئيس مركز دراسات الخليج العربي الأسبق, الأستاذ الدكتور (محمود), والمرشد البحري الأقدم (مؤيد), والإداري اللامع (موفق), والضابط البحري المتميز (المنتصر), والتربوية الناجحة (سناء), وحفيدها العميد البحري الركن (مهند), وربما كانت هي التي شجعت أبناء شقيقها في ولوج العوالم البحرية من أوسع أبوابها, فكان (علي) ابن شقيقها حازم من دفعة الضباط البحريين الذين تخرجوا في أكاديمية الخليج العربي عام 1983, وتخصص مؤخرا في القطاع البحري الخاص بتأسيسه لمكتب (التوفيق) للخدمات البحرية, ثم تبعه شقيقه (محمد) فتخرج في الأكاديمية عام 1986, اما شقيقهم (ليث) فسجل اسمه مديرا متميزا في خطوط الشحن البحري من خلال شركة (رمال البحر), التي هي اليوم من الشركات الفاعلة في الموانئ العراقية. .
كان بيتها ملاذا للكتاب والأدباء, يزورهم عندليب شط العرب, الشاعر الكبير بدر شاكر السياب, الذي ارتبط بعائلتها بروابط القرابة البعيدة, ولطالما لجأ إلى بيتها في الساعات العصيبة, وفي أوقات الشدة, اما الكاتب الكبير, والصوت الحر, الأستاذ داود الفرحان فقد ارتبط بعلاقات وثيقة مع هذه الأسرة الكريمة, فهو شقيق الحاجة (أم الكابتن مهند), وله مكانة كبيرة في قلوبنا جميعا, وهو الكاتب الوحيد الذي انفرد من داخل العراق بانتقاد مفاصل الدولة في ظل الأنظمة السياسية المتعاقبة, فتعرض للسجن والاعتقال مرات عديدة بسبب مقالاته الساخرة اللاذعة, وتعرض ذات مرة للنفي الإداري في ضواحي (أبو الخصيب) بالبصرة, فكانت الحاجة (أم مؤيد) تتابع أخباره وتهتم بشؤونه, وتقلق عليه. .
المرأة الحديدية
كانت مجتهدة في طاعة ربها, صوامة في نهارها, قوامة في ليلها, ناطقة بالحق, شاكرة في يسرها, صابرة على ضراءها, عفيفة نزيهة قانعة خاشعة متواضعة, أفنت جهدها وطاقتها لتصنع من أبنائها شيئا تسعد به الأمة, وتسعد به الوطن, وتسعد به الأجيال القادمة. .
لم تحاول يوماً أن تقف أمام العدسات, ولم تقابل أي مذيع أو صحفي ليكتب عنها وعن سيرتها, فقررت أن أعرفكم بها, وأنقل عنها تلك الصورة الرائعة مما قدمته وأعطته ووهبته, لتعرفوا حقا ما هي مواصفات الأم العراقية المثالية, التي لا تنتظر أن تكرمها صحيفة, أو جمعية, فتكريمها نابع من سعادة أبنائها, ووجودهم بجوارها في كل حين, فلا تحاولوا أن تبحثوا عنها خارج هذه المقالة, رغم إنها تستحق أكثر من هذا, لأنها في دمنا وشراييننا, وفي كل دفقة من عطائنا. إنها واحدة من أمهاتنا المثاليات في البصرة. .