كاظم فنجان الحمامي
توجتهُ الصحافة الاقتصادية العالمية أميرا في المملكة النرويجية, فكانت أوسمة الإمارة دون استحقاقاته الأكاديمية, لم يكن يفكر بالأوسمة ولا بالإمارة, فليست الألقاب هي التي تكسب المجد, بل العلماء من يكسبون الألقاب مجدا بما يحملونه من مواهب وقدرات عقلية وإبداعية. .
لم يخطر على باله انه سيغادر مرافئ شط العرب, ويرحل بعيدا عن البصرة ليرمي مرساته في بحر الشمال عند مقتربات المنصات النفطية العملاقة, بيد إن الرياح هي التي جرت بما لا تشتهي السفن, فغيرت اتجاهات بوصلته صوب الشمال (Northward), أو (Nor-Way), أو (Norway), أو (النرويج), فحمل معه براءة أهل البصرة وعذوبتهم الساحرة في التعامل العفوي مع الناس من دون أن يلجأ إلى التكلف ولا التصنع, فاستقبلته مرافئ النرويج, وكلفته بمهمة تقييم التنقيب في بحرها الإقليمي, فكان أول من تنبأ في اكتشاف الحقول المختبئة في القيعان السحيقة. .
كان الخبير النفطي العراقي (فاروق القاسم) هو طائر السعد الذي حلق في سماء (أوسلو) ليحمل معه الأخبار السارة, ويضيف الملامح السعيدة إلى الوجوه المشرقة الطافحة بالنضارة والجمال, فاكتملت الصورة بالماء والخضراء والثروات النفطية المتدفقة من قاع البحر. .
وإليكم الحكاية التي سنختصرها هنا, والتي صارت من الحكايات الشعبية الاسكندينافية, أما بطلها فهو السندباد الجيولوجي الذي منح الاقتصاد النرويجي شحنات إضافية, ووضع المملكة النرويجية في طليعة الأقطار الأوربية النفطية الناهضة. .
الهجرة إلى عاصمة الضباب
ولد (فاروق بن عبد العزيز القاسم) عام 1936 في منطقة (الخندق) من ضواحي البصرة, لأسرة عربية متدينة, تنتمي إلى عائلة (المبارك), التي ترتبط بأواصر النسب مع بعض العوائل الإماراتية, التي احترفت الملاحة في عرض البحر. .
كان جده (قاسم) ملاحا ماهراَ, عرفه الناس بامتلاكه للسفن الشراعية, وبكثرة أسفاره ورحلاته البحرية الطويلة بين مرافئ الهند والسند ومرفأ البصرة, الذي كان سيد الموانئ والمرافئ في الخليج العربي. .
كان أبوه مربيا فاضلا, كرس نشاطاته التربوية والإنسانية في رعاية الأيتام, ووضع الأسس الصحيحة لاحتضانهم وتعليمهم وتأهيلهم, فكان من خيرة المدراء الذين تعاقبوا على إدارة مبرة البهجة في البصرة. .
نشأ (فاروق) في كنف هذا الرجل الطيب في بيتهم الواقع في منطقة الخندق ثم انتقلوا مؤقتا إلى بساتين أبي الخصيب.
أكمل دراسته الأولية برعاية والده وإشرافه, ثم شد الرحال إلى بريطانيا عام 1952 لمواصلة دراسته العليا على نفقة شركة نفط العراق, فالتحق بالكلية الإمبراطورية بلندن, وتخرج فيها عام 1957, وكان من ضمن الدفعة الأولى لقسم الدراسات الجيولوجية. .
عمل بعد تخرجه في أدارة الحقول بشركة نفط البصرة في البرجسية, ثم ترك الوظيفة عام 1967, ولا ندري بالضبط, ما الذي دفعه لتقديم استقالته لينتقل عام 1968 للعيش في النرويج مع زوجته النرويجية (سولفرد), وأولاده (فريد), و(نادية), و(رائد).
ربما كان لمرض ابنه الأصغر (رائد), وإصابته بالشلل الدماغي التأثير الكبير في مغادرة العراق للبحث في المستشفيات النرويجية عن آخر ما توصلت إليه العلوم الطبية في التغلب على هذا المرض, بعد أن يأس من العثور عليه في العراق.
وصل (فاروق) إلى لندن برفقة زوجته وأطفاله, فتلقى توجيهات طبية تقضي بسفره إلى النرويج, التي سيجد في مستشفياتها العناية المرجوة لابنه العليل, وهكذا غادر لندن على الفور, وتوجه إلى (أوسلو), فوصلها في الصباح, وكان يتعين عليه أن يستقل قطار المساء ليستقر في البيت الريفي لعائلة زوجته, فوجد انه بحاجة إلى تمضية بعض الوقت في التجوال, وشاءت الصدف أن يمر بالشارع الذي تقع فيه وزارة الصناعة, فوقف يتأمل بنايتها من بعيد, ثم قرر الولوج في أروقتها للاستفسار عن إمكانية تشغيله في احدى شركات توزيع النفط في العاصمة, أو العمل بعقد مؤقت في نشاطات الوزارة النفطية المحدودة, لعلها تحتاج إلى خدمات جيولوجي متخصص بالتنقيب عن النفط, لكنه لم يجد من يتفاهم معه في هذا الشأن, وطلبوا منه العودة بعد ساعتين. فكانت المفاجأة المصيرية.
اللقاء المصيري
بعد ساعتين بالتمام والكمال, كان (فاروق) يجلس في مقر الوزارة حول مائدة مستديرة تضم نخبة من خبراء وزارة الصناعة النرويجية, لم يكن مرتبكا في الرد على استفساراتهم, بل على العكس تماما, فسرعان ما تحولت مسارات الحوار في هذا اللقاء لصالحه منذ الدقائق الأولى, وبدا وكأنه هو الذي يوجه الأسئلة, وهو الذي يدير المقابلة, واكتشف بفراسته العربية الصائبة, إنهم بحاحة الى شخص بمستواه المهني والمهاري والعلمي في المجالات النفطية الحقلية, فاستطاع أن يقنعهم ويستحوذ على اهتماماتهم, وانتهى اللقاء بتوقيع عقد التوظيف بدرجة مستشار نفطي مبدأيا لمدة ثلاثة أشهر فقط ولكنها استمرت من أيلول (سبتمبر) 1968 إلى (أبريل) 1973, على مدى أربع سنوات وثمانية أشهر, بمرتب شهري مشجع, في موقع مرموق, وانيطت به مهمة تحليل نتائج التنقيب في بحر الشمال منذ اليوم الأول لالتحاقه بوظيفته الجديدة, ولم يكن يعلم انه سيكون قدم السعد, وتنفتح بوجهه مغاليق الحقول النفطية الغائرة في تلافيف البحر الغاضب. .
الغوص في بحر الشمال
فاتني أن اذكر أن النرويج كانت قبل وصول (فاروق) من البلدان الأوربية الفقيرة, وكانت تعتمد في تأمين غذائها على الصيد البحري, ومنتجات الألبان, وزراعة الفواكه والخضروات في البيوت الزجاجية المغلقة, وكانت تمني نفسها باستخراج النفط من باطن الأرض, أو من جوف البحر, بيد ان مديرية المسح الجيولوجي النرويجية استبعدت إمكانية العثور عليه في البر والبحر, وهكذا فقدوا الأمل, وهبت عليهم رياح اليأس, فركزوا جهودهم على حماية حياتهم الهادئة, والبقاء على صناعاتهم التقليدية, فجاء (فاروق) ليغير الأوضاع البائسة, ويبعث الآمال من جديد في ضوء التقارير الايجابية, التي أعدها بنفسه, فحمل الأنباء السارة, وزف لهم البشرى وهم لا يصدقون. وأثبتت عمليات الحفر بما لا يقبل الشك وجود النفط بكميات هائلة في حدود المسطحات البحرية النرويجية, فانقلبت التوجهات المركزية رأسا على عقب منذ ذلك اليوم, وتجددت العمليات البحرية, فتولى (فاروق) قيادة الأنشطة التنقيبية والإنتاجية, وتفعيلها ميدانيا. .
كانت النرويج تعاقدت قبل وصول (فاروق) مع شركة (فليبس بتروليوم) للتنقيب عند سواحل جرفها القاري, وكانت الشركة على وشك الاعتذار وإعلان الانسحاب, بعد أن فشلت في العثور على النفط, فتصدى لها (فاروق) بحججه العلمية وبياناته المنطقية, واستطاع أن يقنع الحكومة النرويجية برفض طلبات الإعفاء, التي تقدمت بها (فليبس), وطلب من الحكومة فرض غرامات مالية ثقيلة على الشركة التي كادت أن تعلن التخلي عن التنقيب, وأكد على ضرورة التركيز في التنقيب عند حقل (إيكوفيسك), ولم تمض بضعة أيام على هذا الإصرار الفاروقي حتى تحققت المفاجأة, وتدفق النفط بكميات هائلة من قاع البحر, فأشرقت شمس البصرة الدافئة على الربوع النرويجية باكتشاف كنوز النفط ومشتقاته. .
نجح (فاروق) في مهمته, فحلق بالنرويج من أسفل سافلين إلى قمة البلدان الأوربية الناهضة, فقفزت بين ليلة وضحاها إلى مصاف الأقطار النفطية, وتألقت في حلبة الاستكشافات النفطية بمساعدة هذا الشاب البصري المفعم بالحيوية, فتسلق سلم المجد, وارتقى إلى أعلى الدرجات والمراتب, فكلفته الحكومة النرويجية بإدارة عمليات التنقيب والإنتاج في عرض البحر, وكان هو الذي يدير دفة التفاوض في الشؤون التقنية مع الشركات الكبرى, وهو الذي يرسم الخطوط العامة للتشريعات النفطية والمالية, وكان هو الذي وضع اللبنة الأولى لتأسيس شركة النفط الوطنية النرويجية (Statoil), وهو الذي أطلق عام 1996 فكرة إيداع إيرادات النفط النرويجية في صندوق توفير خاص يضمن حصة كل مواطن نرويجي, من الصغير إلى الكبير, ومن دون تمييز مذهبي أو طائفي أو عرقي أو فئوي, فمثل هذه التصنيفات غير موجودة في أذهان أعضاء الحكومات النرويجية المتعاقبة, وكان هو الذي اقترح على الحكومة النرويجية اعتماد ضوابط ثابتة صاغها بنفسه لضبط مسار التعاملات النرويجية المحدود مع الشركات النفطية الأجنبية, فكان له ما أراد, وصادق عليها البرلمان وصارت من التشريعات النافدة. .
تحولات ايجابية
تحول (فاروق) من عمله كمستشار نفطي ليصبح هو المدير العام لإدارة الموارد النفطية في عموم الرقعة الجغرافية للنرويج, للمدة من نيسان (أبريل) 1973 إلى كانون الأول (ديسمبر) 1990, على مدى أكثر من ربع قرن من الزمان, وعلى وجه التحديد (سبعة وعشرين عاماً وتسعة أشهر), تألق فيها (فاروق) نحو الأعلى عندما وضع الأسس الصحيحة لاستثمار النفط في حقل (ترول Troll), الواقع تحت إشراف خمسة من كبريات الشركات النفطية, لكن الملفت للنظر, إن تلك الشركات كانت تستهين بمكامن النفط في هذا الحقل, وتظن انها من الحقول غير المجدية اقتصاديا, ولا ترى أيه فائدة ترتجى منه, في حين كان (فاروق) يخالفهم الرأي, ويصر على التركيز على استثمار النفط في هذا الحقل قبل الشروع بإنتاج الغاز, ويطالبهم بالسعي لتكثيف جهودهم, والعمل بتوجيهاته الميدانية السديدة, وبالخطوات التقنية التي رسمها لهم مؤكدا على استخراج النفط في المرحلة الأولى, ومن ثم الانتقال إلى استخراج الغاز الطبيعي في المرحلة الثانية, فكان له ما أراد, ونجح في إنقاذ هذا الحقل من الضياع, وهو الآن من أكبر خمسة حقول في تاريخ النرويج.
لم يواجه (فاروق) أية صعوبات في تعامله اليومي مع البيئة البحرية المعروفة بتقلباتها وقسوتها, وتلاطم أمواجها, وصعوبة التنقيب في أعماقها السحيقة. .
لقد تنبه هذا الرجل لنقاط الاختلاف الجوهرية بين التنقيب في اليابسة والتنقيب في عرض البحر, واستطاع أن يتجاوز الفوارق الهندسية الكثيرة في التصاميم والحفر والتطوير والإدامة, وما إلى ذلك من تعقيدات تفرضها الظروف البحرية السائدة في بحر الشمال. .
انصبت اهتمامات (فاروق) على كيفية التصرف بالموارد النفطية حتى تحقق الفائدة الكاملة, لم يتحدد تفكيره باستخراج النفط من جوف البحر, بل كان مجسدا بسلسلة من الخطوات تبدأ بالتصرف بالموارد بالشكل الصحيح لاستخلاص اكبر نسبة من النفط الموجود تحت سطح الأرض, ومن ثم تحويل الموارد المستخرجة إلى موارد نقدية, ثم الإصرار على تحويل الريع المالي إلى فوائد مستديمة تخدم الشعب بكل فئاته, وترعى مصالحه كلها, ولن تتوقف عند مراحل الإنتاج والتوزيع وحسب, بل تشمل كل المراحل الاقتصادية والتنموية والسياسية بآفاقها المستقبلية العميقة الواسعة, وبالاتجاه الذي يلبي الاحتياجات الضرورية, ويحقق الأهداف الوطنية الإستراتيجية . .
يعمل المفكر (فاروق) حاليا رئيسا لمؤسسة (بتروتيم Petroteam), وقد باشر بهذه الوظيفة منذ أكثر من (21) عاما, وحتى هذه الساعة, آخذين بنظر الاعتبار انه التحق بها عام 1991. .
لقد قدم فاروق في العقدين الأخيرين خدمات لا تحصى للعديد من البلدان في إفريقيا والشرق الأوسط منها تنزانيا, وموزنبيق, وغانا, وانغولا, وساحل العاج, واريتريا, والسودان, ولبنان, والعديد من البلدان المتعاونة مع النرويج, وكانت جميعها تهدف إلى تحسين إدارة قطاع النفط فيها, وخلق فوائد مستديمة لشعوب تلك البلدان, والحفاظ على تلك الفوائد والمنافع, ومنعها من التلاشي والضياع والغرق في مستنقعات الأزمات النفطية الخانقة. .
بمعنى انه أمضى حوالي (4) سنوات من غربته بدرجة مستشار, ثم أمضى حوالي (27) عاما مديرا للموارد النفطية, وأمضى حوالي (21) عاما رئيسا لمؤسسة (بتروتيم). وبالتالي فان المحصلة العامة للخدمات الجليلة التي سجلها هذا الرجل العبقري المبدع تزيد على نصف قرن من الكفاح الميداني المضني في عرض البحر, بما يشتمل عليه هذا الكفاح الطويل من دراسات جيولوجية ومسحية وتحليلية وتخطيطية مجدية, وبما واجهه من معوقات وصعوبات وتحديات, كان لها الأثر الكبير في انتشال النرويج من واقعها الريفي الفقير, والارتقاء بها نحو مصاف الأقطار النفطية الغنية المتباهية بحقولها النفطية والغازية المنتشرة في بحر الشمال.
مع العمالقة
لم يكن (فاروق) بعيدا عن العراق ومشاكله, ولم يكن في منأى عن أنشطته النفطية, فقد كان على اتصال دائم بصديق الطفولة رئيس المهندسين (فاضل علي عثمان البدران), والذي يعمل الآن مستشارا نفطيا في اسطنبول, ولفاروق اتصالات حميمة مع زميله الدكتور المهندس (قاسم محمد عبد الوهاب), والذي يعد من أقدم الجيولوجيين العاملين في حقول الإمارات, وله اتصالات مهنية مع المهندس النفطي الكبير (سعد الله الفتحي) المدير الأسبق للمصافي في العراق, ولهؤلاء جميعا علاقات تعاونية مع رئيس المهندسين (جبار اللعيبي) المدير الأسبق لنفط الجنوب. .
ذكر لي الدكتور قاسم عبد الوهاب: إن (فاروق) تقدم للعراق بباقة من الأفكار والمقترحات المؤطرة بالمشاعر الوطنية الصادقة, لكنه لم يتلق الرد عليها, ومع ذلك مازال يتحين الفرص لكي يعرض مشورته, ويسخرها في خدمة أهله في العراق, بانتظار من يسمع صوته ويحقق رغبته. والحقيقة انك عندما تتحدث مع هذا العملاق تشعر انه لم يغادر شط العرب, ولم يبتعد كثيرا عن البصرة. .
ففي عام 2004 , أخذ فاروق زمام المبادرة في التنسيق مع زملائه لكتابة المسودة الأولى لقانون النفط العراقي, الذي كانت الغاية منه تنظيم الصناعة النفطية في المنظور الذي يحقق للعراق أفضل الانجازات, بحيث تمنحه القدرة على الاستفادة من المنافسة المحتدمة بين الشركات الدولية, وتمنع ثرواته من التبعثر بين الأقاليم المتباعدة. .
يقول (فاروق): ((انه قدم تلك المسودة المقترحة وقتذاك كهدية لزميله وأخيه وزير النفط (ثامر الغضبان), الذي تبناها ورفعها إلى الجهات العليا, وبعد إقرار الدستور العراقي طلب وزير النفط الجديد الدكتور الشهرستاني من الثلاثي (طارق شفيق, ثامر الغضبان, وفاروق) إعادة النظر في المسودة بحيث تكون متوافقة مع أحكام الدستور, وبخاصة الفقرات المتعلقة منها بالأقاليم, والسلطات الاتحادية في المركز, وبناء على هذه التوجهات, أعيد النظر بالمسودة, وخضعت للتعديل, ورُفعت من جديد إلى وزارة النفط عام 2006)), ولم تر النور منذ ستة أعوام. .
قوة الارتباط بالجذور
قبل بضعة أيام كنت اكلمه بالهاتف المحمول, وكنت في حينها جالسا تحت الظلال الوارفة لشجرة معمرة من أشجار (السدر), عند ملتقى سواقي بساتين (الصنكر) مع النهر الخالد, فسمع زقزقة العصافير العائدة إلى أعشاشها, فقطع حديثه فجأة, وتوقف عن الكلام, وقال لي: (كاظم. . أنا اسمع زقزقة عصافير, هل هذا صحيح ؟, أين أنت الآن ؟؟).
قلت له: أنا في بساتين أبي الخصيب, عند جرف شط العرب, حيث تتداخل أصوات النوارس مع زقزقة زرازير المساء. .
فتحسر طويلا, وقال لي بصوت متقطع: ( الله. . الله. . يا ليتني كنت معكم الآن في أبي الخصيب, أنتم في النعيم), ولا يدري إن بساتين أبي الخصيب تحولت إلى مقبرة بيئية كبيرة, تعج بأشجار النخيل التي ماتت واقفة, بعد أن تقطعت أعناقها وتخشبت جذوعها. .
أحسست لوهلة, إن الرجل لم يغادر بيته الريفي في ضواحي البصرة, وأن جذوره العراقية ارتبطت ارتباطا وثيقا بالميزوبوتاميا, وان شرايينها استطالت, فامتدت عبر خطوط الطول والعرض من سواحل بحر الشمال إلى سواحل الفاو, لتحتضن العراق وتعانق البصرة. . .
ثمرة الإبداع والتألق
دفعه حبه لفلذة كبده (رائد) إلى تحمل مشقة البحث عن دور الرعاية الصحية بين بريطانيا والنرويج, ومضى في بحثه المضني حتى أخذ الله بيده, وشمله برحمته الواسعة, فكتب للطفل المشلول الشفاء, وتحسنت صحته بشكل ملحوظ, واستقرت العائلة في مدينة (ستافنجر) جنوب غرب النرويج, وكان الله كريما مع رب الأسرة الصابر المثابر, فهيأ له سبل النجاح, وذلل له الصعاب, فتدفق الخير بين يديه, وتفجرت ينابيع الطاقة من ظلمات البحر المتلاطم الأمواج. وكان هو الخبير الكفء, والعالم المتميز بعبقريته الفذة. .
عرفه الشعب النرويجي بأفكاره المستقبلية المثمرة, فنال الشهرة الواسعة, وعشقه الناس في القرى النرويجية لتواضعه وبساطته, فاستحق صولجان الريادة, ونال حبهم وكسب صداقتهم, فكانت قصة رحلته من البصرة المتوهجة بحرارتها الخليجية إلى أوسلو المتجمدة ببرودتها القطبية, من أروع القصص والحكايات الشعبية في تلك الديار القريبة من القطب الشمالي, فذاع صيته هناك, وكان هو البطل الذي أنقذ الاقتصاد النرويجي من الانهيار. .
ختاما نقول: كان (فاروق) أول من اكتشف إن السعادة في النرويج هي الشيء الوحيد الذي يتعارض مع قوانين الرياضيات, فكلما تقاسمها مع الآخرين تضاعفت وازدهرت.