رائحة الحب
قصة حقيقية
دفعتني للكتابة إليك رسالة رائحة الورد للأم الأستاذة الجامعية التي تتحسر علي ابنتها التي بلغت السادسة والعشرين وأصبحت كالزهرة الفواحة جمالا ورونقا وثقافة ومركزا.. وتتساءل هل زكمت الأنوف فلم تعد تشم رائحة الورود، فلقد أردت أن أروي لهذه الأم الطيبة الحنون قصتي مع تمنياتي لها بأن يقر الله عينيها بسعادة ابنتها قريبا بإذن الله، فأنا طبيبة في التاسعة والعشرين ولدت ونشأت في إحدي دول الخليج حيث كان أبواي يعملان ودرجت بين ثلاثة أشقاء اثنان منهم توأم ويكبرانني وشقيقة تصغرني، وبين والدين هما في نظرنا كل الحب والحنان، وقد التحق شقيقاي التوأم بالجامعة في مصر، وبعد عامين لحقت بهما أنا للدراسة بكلية الطب وبعد عامين آخرين عاد أبي وأمي لمصر والتحقت شقيقتي الصغري بالجامعة، ومرت بنا السنون وتخرج الشقيقان وارتبطا بمن اختارهما قلباهما وسافر أحدهما وهو طبيب مع زوجته إلي لندن لاستكمال دراسته هناك، وتخرجت أنا وعملت طبيبة امتياز، ووجدتني شابة في الرابعة والعشرين من العمر.. جميلة ومثقفة ومن أسرة طيبة واجتماعية ومرحة لكني لم أرتبط بأي إنسان بعد لأن ظروف دراستي شغلتني عن التفكير في الزواج.. ثم جاءتني زميلة لي لتخبرني بأنها تريد أن تخطبني لإبن خالتها وحدثتني عنه طويلاً.. وكان رأيي أنه من الضروري أن أراه ويراني هو أولا في لقاء عابر في مجال العمل حتي إذا تحقق القبول الشكلي، يقوم بزيارتنا في البيت وإذا حدث العكس لم يتعرض أحد للحرج لكنه لظروف عمله في محافظة أخري لم يتم هذا اللقاء، وجاء هو لزيارتنا في البيت بعد فترة مع أخته وزميلتي للتعارف، ووجدته شابا وسيما أنيقا وتحدثنا في أمور عامة دون التطرق إلي موضوع الخطبة، وفي اليوم التالي فجرت زميلتي في وجهي قنبلة مفاجئة حين أبلغتني أنه قد أعجب بشقيقتي ويرغب في خطبتها هي وليس في خطبتي، وكانت شقيقتي في ذلك الحين في العشرين من عمرها وطالبة في السنة الثالثة بالجامعة، ولك أن تتخيل ما شعرت به في تلك اللحظة.. فلقد شعرت أنني كمن كان يسير في طريقه آمنا وفجأة تلقي صفعة قوية دون سابق إنذار! وعدت إلي البيت باكية.. ووقفت أمام المرآة وسألت نفسي لماذا لم أعجبه؟ ولماذا استحققت منه هذه الصفعة لأنوثتي، وبعد أن تمالكت نفسي وهدأت صارحت أبي وأمي وأختي بما حدث فوجم أبواي، وثارت شقيقتي وانهالت عليه بالسخرية.. واحتضنتني وهي تقول لي لعن الله من يفرق بيننا وأصرت علي الرفض وأيدها والداي في ذلك وانتهت أولي صدماتي في هذا الموضوع.
وبعد أقل من عام تقدم شاب ممتاز لشقيقتي فرفضته بحجة أنه مازال أمامها عام دراسي آخر قبل أن تتخرج، وكاد أبي وأمي يوافقانها علي ذلك، لكني كنت علي يقين من أنها لا ترفضه بسبب الدراسة وإنما مراعاة منها لظروفي لأنني أكبرها بأربع سنوات ولم أتزوج، فبذلت كل جهدي لإقناعها بقبول هذا الشاب الممتاز حتي نجحت في ذلك وتمت الخطبة بالفعل وبعد 8 شهور فقط تم الزفاف وكنت أسعد الجميع به، وأنهيت أنا عام الامتياز بعد ان تجاوزت الخامسة والعشرين بعدة شهور ولاحظت ان الحزن يخيم علي أبي وأمي لبقائي معهما وحدي في البيت بعد أن تزوج من يكبرانني ومن تصغرني.. لكني واصلت حياتي وجاء الأحفاد ليملأوا البيت صخبا وضجيجاً وضحكاً وحباً، وأصبحت عمة لثلاثة أطفال وخالة لطفلة واحدة كما أصبحت أيضاً أتجاهل نظرات الاشفاق في عيون أبي وأمي وأخوتي حين أستغرق في مداعبة الصغار، ولم يكن ذلك يعني أنه لم يتقدم لي أحد.. وإنما فقط أنه لم يتقدم لي الشخص المناسب حتي ذلك الوقت، وشغلت نفسي بعملي.. فعملت في عيادة طبيب أطفال كبير ودرست للماجستير ورشحني الطبيب الكبير بعد فترة للعمل في مستشفي خاص، وهناك تعرفت بزميل لي وتقاربنا كثيراً وتقدم لخطبتي وسعد الجميع به وبي ودامت الخطبة عاما كاملا وبدأنا الاستعداد للزفاف.. وعقدنا القران.. وفي الاسبوع التالي مباشرة للقران تعرض خطيبي لحادث سيارة أودي بحياته رحمه الله.. وانهرت انهيارا كاملاً ودخلت المستشفي وأمضيت فيه شهرين حتي استعدت قواي ولملمت نفسي واستعنت بربي علي أمري وخرجت من المستشفي إلي منزل أصهاري فاستقبلني والد خطيبي الراحل بكل الحب الحزين والمواساة وقبل رأسي ودعا لي ربه.. ثم جاءت والدته فاستقبلتني بكل النفور ولم تتردد في أن تقول لي أنها لا تريد أن تراني بعد ذلك أبداً لأنني كنت شؤما علي ابنها الذي مات بعد عقد قراني عليه بأسبوع..
وقدرت أحزانها وغادرت بيتها مكتئبة وحزينة وعدت إلي بيتي فدخلت حجرتي واعتكفت فيها أسبوعاً لم أنقطع خلاله عن التفكير في أمري ولا عن صلاة الاستخارة لأحاول الاهتداء إلي طريقي في الحياة، وبعد هذا الاسبوع غادرت الحجرة بقرار أبلغت به أبي وأمي وهو أنني أريد أن أسافر إلي بريطانيا لألحق بأخي الطبيب المقيم هناك واستكمل دراستي بعيدا من ذكرياتي الحزينة وآلامي القديمة، وأيدني أخي بحرارة في ذلك واحتجت إلي جهد كبير لإقناع أبي وأمي بما أردت، حتي تركاني أسافر وابتعد عنهما وهما في شدة الجزع والاشفاق عليّ فسافرت وأنا في السابعة والعشرين واستقبلني أخي ورعاني كأنني طفلته ورعتني زوجته كما لو كنت طفلها الثالث وقررت أن أبدأ من جديد وأن أعتمد علي الله الذي لا يغفل ولا ينام فبدأت الدراسة والعمل علي الفور والتحقت بحلقة لتحفيظ القرآن الكريم بالمركز الإسلامي في لندن، والتحقت بدورة لتعليم العزف علي البيانو وشغلت نفسي بكل ذلك واستغرقت فيه ورجعت إلي طبيعتي السابقة وفي أحد أيام العمل بالمستشفي البريطاني اختلفت مع إحدي الممرضات حول أسلوب علاج أحد الأطفال المرضي فأشارت إلي الطبيب الانجليزي الذي يرأس مجموعتنا وقالت لي أنه الذي أمر بذلك.. وجاء هو علي الصوت ووجدت نفسي في مواجهة معه وحين ثرت عليه رد عليّ بهدوء أو علي الأصح بالبرود الانجليزي المعروف قائلاً في حسم أنه ينتظرني في مكتبه بعد قليل، وانصرف، وتوجهت إليه في مكتبه فقال لي أنني أخطأت بانفعالي انفعالا زائداً في هذا الأمر كما أنني قد تدخلت في تخصصه وأخطأت بأن ناقشت أسلوب العلاج أمام الطفل وأبويه مما قد يضعف ثقتهم بنا أو بالعلاج، وبعد أن أوضح لي أوجه خطئي اعتذر لي عما ضايقني به خلال الحديث وأنهي اللقاء وهممت بالإنصراف من مكتبه فإذا به يقول لي بالعربية: مع السلامة! فعرفت في هذه اللحظة فقط أنه مصري وأنني قد خدعت بملامحه الاوروبية فظننته انجليزيا وعلمت أنه مصري من أب مصري وأم بريطانية وان شقيقته الوحيدة متزوجة كذلك من مصري، واقترب كل منا من الآخر منذ هذه اللحظة، وازددنا تقاربا واقترابا يوما بعد يوم حتي عرفت كل شئ عنه وعن والدته الانجليزية المسلمة وعن تربيته هو وشقيقته، وانفجر ينبوع الحب في قلبي وفي قلبه في وقت واحد ففاض علي الآخر وأغرقه وعدنا لمصر معاً لكي يخطبني ويتزوجني بعد أن تجاوزت الثامنة والعشرين من العمر، ولكي يذيقني كؤوس السعادة والهناء ويغرقني في بحر حبه وحنانه، ويعوضني عن كل آلامي السابقة أنني أكتب لك هذه الرسالة من الاسكندرية حيث نقضي أنا وزوجي الحبيب إجازة سعيدة علي أرض مصر لكي أقول له شكراً علي كل ما أعطيتني من حب وحنان وعطاء.. وأدعو الله سبحانه وتعالي أن يبقيه لي شريكا وحبيبا وسندا في الحياة.. ولكي أخاطب الأم الطيبة كاتبة رسالة رائحة الورد وأطالبها بألا تشعر بالقلق علي ابنتها لأنها قد تجاوزت السادسة والعشرين دون ان يتقدم لها الشخص المناسب، لأن الزواج رزق ونصيب وقد كتب لها عند مولدها الزوج الذي سيشاركها حياتها فإني لم أكن لأتخيل ذات يوم أنني سوف أسافر إلي بريطانيا لكي التقي بمن يكمل معي مشوار الحياة كما أنه ليس المهم هو أن تتزوج الفتاة وإنما أن يكون من تتزوجه هو الاختيار السليم لها والذي يسعدها.. فلا داعي للقلق بشأن التوقيت.. والسلام عليكم ورحمة الله