امتاز علي بن الحسين عليه السلام بقوة الشخصية وبعد النظر فضلا عن العلم والتقوى حتى عرف بزين العابدين, وقد تقدم على أهل زمنه علما وفهما حتى غدا قبلة الطلاب والوافدين إلى مكة والمدينة, وتظهر بعض ألقابه الكثيرة تلك المكانة: فهو
"وارث علم النبيين, وخازن وصايا المرسلين".
وفيه قال ابن شهاب الزهري: "... كان أفضل هاشمي أدركناه...".
كان الإمام زين العابدين عليه السلام فصيحا بليغا, وكان إذا وقف يخطب تقشعر له الأبدان من قوة حججه وسلامة منطقه.
كما أتقن اللغة الرومية التي احتك المسلمون بأهلها بعد فتح الشام, وكذلك كان له اهتمام شديد بالقرآن, حيث كان عليه السلام يقول:
"لو مات ما بين المشرق والمغرب, لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي".
حج هشام بن عبد الملك فحاول أن يلمس الحجر الأسود
فلم يستطع من شدة الازدحام, كرر محاولته اليائسة للمس الحجر ولكنه رجع خائبا,
وكان قد جلب معه الرجال والحشم ليحفظوا له أبّهته وفخامته,
وكان هؤلاء صاغرين إزاء عظمة الحج وسموه المعنوي,
فأمر بأن ينصب له عرش على مكان مرتفع حتى يقيّض له النظر
إلى الحجيج وليملأ عينيه بتفرجه على هذا الاجتماع المهيب.
وبينما هو وحاشيته على هذه الحال,
إذ شاهد رجلا يعلو سيماه التقوى والورع,
يغطي جسمه قميص أبيض مثل سائر الحجاج, بدأ بالطواف حول
الكعبة ثم توجه بخطوات مطمئنة يريد لمس الحجر الأسود,
فانفرج له الناس ووقفوا جانبا تعظيما له حتى لمس الحجر وقبله
ومضى, فعاد الناس إلى ما كانوا عليه.
دهش الشاميون لهذا المنظر العجيب ولم يستطع أحد أن يمسك نفسه عن أن يسأل هشام قائلا:
من هذا يا أمير المؤمنين؟ فأجاب هشام: لا أعرفه.
والحقيقة أن هشاما كان يعرفه حق المعرفة, إلا أنه قال ذلك حتى لا يرغب أهل الشام به.
وصادف أن كان الفرزدق الشاعر واقفا فأجابه:
هذا علي بن الحسين بن علي, ثم أنشد فيه قصيدته المشهورة
التي يقول فيها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
فغضب هشام لسماع هذه القصيدة وقال للفرزدق:
ألا قلت فينا مثلها؟
فقال الفرزدق:
هات جدا كجده وأبا كأبيه وأما كأمه حتى أقول فيك مثلها؟
فأمر هشام بحبسه في "عسفان" بين مكة والمدينة,
فحبس ولكنه لم يأبه بذلك,
فلما بلغ خبره علي بن الحسين عليه السلام بعث إليه باثني عشر ألف درهم
وقال: اعذرنا يا أبا فراس فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به,
فردها الفرزدق وقال: يا ابن رسول الله ما قلت فيك الذي قلت إلا غضبا لله ورسوله وما كنت أريد أن ارزق عليه شيئا.
فردها الإمام عليه السلام ثانية إليه وقال:
بحقي عليك, تقبلها فقد رأى الله مكانك وعلم نيتك,
عند ذلك قبلها الفرزدق.