الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

السر في نصب لفظ السلام ورفعه
قال الله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام :﴿ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ ﴾( هود: 69 ) ، فأتى بسلام الملائكة على إبراهيم منصوبًا ، وأتى بسلامه عليهم مرفوعًا . فما السر في نصب الأول ، ورفع الثاني ؟ وهل من فرق بين السلامين ؟
ويجيب النحاة والمفسرون عن ذلك بقولهم : إن سلام الملائكة- عليهم السلام- تضمن جملة فعلية ؛ لأن نصب السلام يدل على أن المعنى : سلمنا عليك سلامًا . أما سلام إبراهيم- عليه السلام- فتضمن جملة اسمية ؛ لأن رفع السلام يدل على أن المعنى : سلام عليكم . ولما كانت الجملة الاسمية تدل على الثبوت والاستقرار ، والفعلية تدل على الحدوث والتجدد ، كان سلام إبراهيم- عليه السلام- أكمل ، وكان له من مقامات الرد ما يليق بمنصبه ، وهو مقام الفضل ؛ إذ حياهم بأحسنَ من تحيتهم .. هذا تقرير ما قالوه .
وأحسن من هذا الجواب أن يقال : أن سلام الملائكة- عليهم السلام- نُصِبَ ؛ لأنه لم يقصَد به حكايةُ لفظهم ، ولكنه جُعِلَ قولاً حسنًا ، وسُمِّيَ سلامًا ؛ لأنه يؤدي معنى السلام في رفع الوحشة ووقوع الأنس ، فنُصِب لذلك ، ونصبُه على أنه مفعول القول ؛ وكأنه قيل : قالوا قولاً سلامًا . أو قولاً سديدًا ، فيكون حكاية لمعنى ما قالوه ، لا حكاية للفظهم ؛ فلذلك عمل فيه القول ، وهو كما تقول لرجل قال : لا إله إلاَّ الله : قلت حقاً ، أو إخلاصًا . ولو حُكِيَ لفظهم ، لم يصح فيه النصب ؛ فإن القول إنما تُحكَى به الجمل . وأما الألفاظ المفردة فلا تكون مَحكيًّا بها بعد القول ؛ بل تكون منصوبة انتصاب المفعول به .
ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾( الفرقان : 63 ) . أي : يقولون للجاهلين كلامًا يدفعونهم به برفق ولين . فليس المراد أنهم قالوا هذا اللفظ المفرد المنصوب ؛ وإنما المراد أنهم قالوا قولاً سلامًا ، أو قولاً سدادًا . فيكون سلامًا بمعنى : قولاً . أي : قالوا قولاً معناه : سلامًا .
ويحكى أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفًا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فرآه في النوم قد تقدمه إلى عبور قنطرة ، فقال له : إنما تَدَّعي هذا الأمر بامرأة ، ونحن أحق به منك ؟ وكان حكى ذلك للمأمون ، ثم قال له : فما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه . فقال له المأمون : فما أجابك به ؟ قال : كان يقول لي : سلامًا سلامًا . فنبَّهه المأمون على الآية السابقة ، وقال : يا عم ! قد أجابك بأبلغ جواب ، فخزي إبراهيم واستحيا .
أما سلام إبراهيم- عليه السلام- فرفع على الابتداء ؛ لأنه قُصِدَ به حكاية لفظه . ولولا ذلك ، لوجب أن يقال : سلامًا ، بالنصب ؛ لأن ما بعد القول إذا كان مرفوعًا ، فعلى الحكاية ، ليس إلا . وحصل بذلك من الفرق بين الكلامين- في حكاية سلام إبراهيم ورفعه ونصب سلام الملائكة- إشارة لطيفة وفائدة شريفة ؛ وهو أن السلام من دين الإسلام . والإسلام ملة إبراهيم- عليه السلام- وقد أمرنا بالاتباع ، والاقتداء به ، فحُكِيَ لنا قوله ، ولم يُحْكَ لنا قول أضيافه ، فأخبر به على الجملة دون التفصيل ؛ إذ لا فائدة في تعريف كيفيَّته ، وإنما الفائدة في تبيين قول إبراهيم ، وكيفيَّة تحيَّته ؛ ليقع الاقتداء به ، فكان سلام إبراهيم أتم وأبلغ من سلامهم ، والله تعالى أعلم !
فإذا تأملت ما تقدم ، تبين لك أن المراد من سلام الملائكة على إبراهيم- عليه السلام- هو الدعاء له بالسلامة والعافية ، وأن المراد من سلامه عليهم هو الدعاء لهم بالسلامة ، مع السلام عليهم الذي هو عبارة عن التحيَّة التي هي شعار المسلمين .
وممَّا يدلك على أن المراد بالسلام إذا كان منصوبًا مجرد الدعاء بالسلامة ، وأن المراد بالسلام إذا كان مرفوعًا التحيَّة مع الدعاء بالسلامة ، أمور :
أحدها : أن الله تعالى غاير بينهما في قوله :﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴾( الفرقان: 75 ) . أي : تحييهم الملائكة ، ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة . أو يحيي بعضهم بعضًا ، ويدعو له بذلك .
والثاني : أن الله تعالى قال في حق المؤمنين :﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ﴾( الأحزاب: 44 ) ، فأخبر سبحانه أن تحيتهم من الله عز وجل يوم اللقاء هذا اللفظ :﴿ سَلَامٌ ﴾ ، فجاء به مرفوعًا ؛ لأن المراد به : سلام التحية . وكذلك قوله تعالى في حق أهل الجنة :﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ﴾( الرعد: 23 ) ، يقولون :﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار ﴾( الرعد: 24 ) .
والثالث : أن لفظ السلام المراد به مجرد الدعاء هو مصدر بمعنى : السلامة ، من قولك : سلِم يسلَم سلامًا وسلامة ، وهو مثل الجلال ، والجلالة . فإذا حذفت التاء ، كان المراد نفس المصدر . وإذا أتيت بالتاء ، كان فيه إيذان بالتحديد بالمرة من المصدر ؛ كالحب ، والحبة . فالسلام والعدل والجلال ؛ كالجنس العام من حيث لم يكن فيه تاء التحديد . والسلامة والعدالة والجلالة ، كلها تدل على الخصلة الواحدة . ألا ترى أن الجلالة من خصال الجلال ؛ ولهذا لم يقولوا : كمالة ؛ كما قالوا : جلالة ؛ لأن الكمال اسم جامع لصفات الشرف والفضل . فلو قالوا : كمالة ؛ لنقضوا الغرض المقصود من اسم الكمال ، فجاءوا في الجنس الذي يشمل الأنواع بغير تاء ، وجاءوا في أنواعه وأفراده بالتاء .. فتأمل الآن ، كيف جاء السلام مجردًا عن التاء ، إيذانا بحصول المسمَّى التام ؛ إذ لا يحصل المقصود إلا به ، فإنه لو سلم من آفة ، ووقع في آفة ، لم يكن قد حصل له السلام .
وأما السلام المراد به التحية فهو اسم مصدر ، من قولك : سلَّم سلامًا . أما مصدره الجاري عليه فهو : تسليم ؛ كعلَّم تعليمًا ، وفهَّم تفهيمًا ، وكلَّم تكليمًا . والسلام من : سلَّم ؛ كالكلام من : كلَّم . فكما يقال : كلَّم تكليمًا وكلامًا ، يقال : سلَّم تسليمًا وسلامًا . فالأول منهما مصدر ، والثاني اسم مصدر . وبينهما فرقان : لفظي ، ومعنوي :
فأما اللفظي : فإن المصدر هو الجاري على فعله الذي هو قياسه ؛ كالإفعال من : أفعل . والتفعيل من : فعَّل . والتفعلل من : تفعلل . والانفعال من : انفعل .. أما السلام ، والكلام فليسا بجاريين على فعليهما . ولو جريا عليه ، لقيل : تسليم ، وتكليم .
وأما المعنوي : فهو أن المصدر دال على الحدث ، وفاعله . فإذا قيل : تسليم وتكليم ، دل على الحدث ومن قام به ، فالتسليم يدل على السلام والمسلِّم ، وكذلك التكليم .. أما اسم المصدر فإنما يدل على الحدث وحده . فالسلام والكلام لا يدل لفظهما على مسلِّم ولا مكلِّم ، بخلاف التكليم والتسليم . وسر هذا الفرق : أن المصدر في قولك : سلَّم تسليمًا ، وكلَّم تكليمًا ، بمنزلة تكرار الفعل ؛ فكأنك قلت : سلَّم سلَّم ، وتكلَّم تكلَّم . والفعل لا يخلو عن فاعله . وأما اسم المصدر فإنهم جرَّدوه لمجرد الدلالة على الحدث ، وهذه النكتة من أسرار العربية .
فإن قيل : فما الحكمة في مجيء السلام اسم مصدر ؟ ولِمَ لمْ يجىء على أصل المصدر ؟ قيل : إن المقصود من السلام هو حصول مسمَّى السلامة للمسلَّم عليه على الإطلاق من غير تقييد بفاعل ؛ فلما كان المراد مطلق السلامة من غير تعرض لفاعل ، أتوا باسم المصدر الدال على مجرد الفعل ، ولم يأتوا بالمصدر الدال على الفعل والفاعل .. فتأمل هذا السر ، فإنه بديع جدًّا !