شخصيات في تاريخ الفرات الاوسط في حلقات

الحلقة الاولى
(شمران الياسري)


منتديات الفرات

شخصيات من الفرات الاوسط (شمران الياسري)





صدر الملحق الأسبوعي عراقيون من زمن التوهج الصادر عن مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون ، شخصية العدد هو الكتاب الساخر والمناضل المعروف شمران الياسري ( أبو كاطع)

كتب عنه مؤرخ الصحافة العراقية فائق بطي " فلاح من زمن التوهج" قال فيه : فلاح بسيط خسره الفلاحون قبيل ثورة 14 تموز، وكسبه المثقفون بعد الثورة.يضيع، فتجده متنقلا بين الاف الكادحين في ارياف الكوت، يدعو ويحرض وينظم تلك الجموع.يعلو صوته وهو ينادي: انكم امراء ارضنا المعطاء،لا (الاقطاعيين والسراكيل والافندية).

لا تخفي شخصيته صورته، انه فلاح ابن فلاح بسحنته التي احرقتها الشمس،عوده ينم عن طينة مجبولة بتراب الارض التي عشقها هو وكل الفلاحين في العراق.بكاه المعدمون في ارياف الكوت، وهو يشد الرحال الى المدينة الكبيرة،بغداد تناديه بعد انتصار ثورة 14 تموز 1958..

قلة من الاصدقاء في العاصمة الثائرة قالت، جاءنا ابو كاطع. ومن وراء مذياع هنا بغداد، انطلق صوته بلكنة اهل الجنوب، وهو يجيب المذيع حافظ القباني على طلبه: "احجيها بصراحة يا ابو كاطع" فخرجت كلماته جهورية بسيطة ولكنها قوية مدوية، عشقها كل من استمع اليها منذ "الحجاية الاولى"،

وباتت تلك الحكايات، من روائع ادب الريف في سجل الثقافة الوطنية العراقية بل العربية، في اثناء وبعد الثورة بسنوات وسنوات.

وكتب الفنان يوسف العاني موضوع بعنوان شمران الياسري «أبو كاطع» نجم "المقالة المسموعة" حيث ذكر : الشخصيات الأدبية والاجتماعية والسياسية الحبيبة الى الناس جميعاً وعلى مختلف مستوياتهم.. والتي ظلت في القلب والبال والروح.. شمران الياسري، والذي صار أسمه على كل لسان.. «ابو كاطع» لم يكن كاتباً ولا متحدثاً اذاعياً فحسب بل كان في تقديري حالة متميزة.. وظاهرة شاعت في مسار حياة الشعب العراقي، عبر كل موقف يمس معاناتهم سلباً او إيجاباً فترى وتسمع كلمات ذاك الريفي البسيط المشحون أمانة واحساساً وشرفاً وكرامة لاتقبل ان يقترب السوء او الجور او الظلم منها، كلمات كالنار.. بل تسمع احياناً إيقاعها فينتفضً لحنا بلا كلمات لكنه في الأصل كلمات تتجمع وفق سياق غير تقليدي ليتراكم معنى ينفذ الى الهدف فتتفتح عبره الآذان والعيون من خلال الكلمات مكتوبة او مسموعة. شمران.. جاءنا محملاً بحماسة نظيفة كريمة كالعنبر وادعة كرقة الملائكة شامخة كنبل البطولة..

ولم يكن مدعياً ولامتباهياً.. بل إنسان يسير مع السائرين في درب كفاح الشرفاء الباسلين بلا طلب لجاه او موقع أو «عوض» مادي..

وكتب الأستاذ أحسان شمران الياسري رسالة "إلى والدي" قائلاً : يوم 17/8/1981 توفي المرحوم شمران الياسري/ أبوكاطع في حادث سير وهو في الطريق من جيكوسلوفاكيا إلى هنغاريا لزيارة شقيقنا الأكبر المرحوم (جبران) الذي توفي هو الآخر في هنغاريا نهاية عام 2001. وانتهت حياة المناضل العراقي (شمران الياسري)، أسطورة العمود الصحفي البارز الذي أسسه بصراحته المشهورة.. ومن سوء الحظ أن يُتوفى خارج العراق، ويكون في العراق نظام لا رحمة في قلبه، فيقرر أصدقاؤه دفنه خارج الوطن، في لبنان في مقبرة الشهداء الفلسطينيين.. ولم يشهد أهله وزوجته وأولاده تغسيله ودفنه، مع إن أصدقاءه الذين جاءوا مع جنازته من (براغ) إلى بيروت متخفين بأسماء وهمية، تولوا تلك المهمة ..

وهكذا رقد ذلك الجسد النحيل المترف الأبيض في بيروت، في ضاحيتها يترقب بوابة المقبرة عسى أن يطل عليها أهله أو أصدقاؤه.. واليوم يستذكر العراقيون مناضلا مميزا مثل (أبوكاطع)، والذي كوّن شخصيته من بين أكواخ الطين في أقاصي ريف الحي، وتتلمذ على يد والدته بمدارس القرآن الكريم والكتاتيب.. ثم دخل بغداد مثقفا واعدا، يشق طريقه في الصحافة والأدب، وقبل ذلك في النضال..

اما الدكتور جمال حسن العتابي فكتب موضوع حكايات شمران الياسري (أبو كاطع) .. مشهد ينتمي إلى الحياة... وقوة حاضره .. حيث قال : في الطابق الثاني من عمارة تطل على شارع فسيح يؤدي الى ساحة التحرير، على يسارها يرتفع نصب جواد سليم، شغلت مجلة (الثقافة الجديدة) جناحاً صغيراً من تلك العمارة، تحت سقف هذا الجناح التقيت أول مرة الكاتب والصحفي والروائي والمناضل شمران الياسري (ابو كاطع) في اوائل سبعينيات القرن الماضي، عندما عادت المجلة الى الصدور من جديد، وقبل هذا التاريخ كانت شهرة (ابو كاطع) قد امتدت الى اعماق ريف العراق ومدنه، بعد ان قدم نفسه اذاعياً لامعاً في برنامجه (احجها بصراحة يبو كاطع) بعد تموز 1958

ومنذ ذلك التاريخ بدأ نجم (ابو كاطع) يعلو بلمعان خاص ومتفرد ولفت اليه انتباه جمهور عراقي واسع، من فئات وشرائح متنوعة لم يقتصر على ابناء الريف فحسب بل من نخب مثقفة ومدنية كذلك. فاختصر طريقه الى النضج بوقت مبكر، وسار الى استقلال اسلوب اذاعي في برنامجه هذا غير هاو للمجاملة او المساومة.

فاستطاع الامساك بالخيط منذ الوهلة الاولى الذي يشد المبدع بجمهوره المتلقي (المستمع او القارئ) بجدارة اخلاقية ومعرفية يعود اساسها الى توافر قدرات الموهبة الى جانب علاقات النشأة والوسط الذي عاش فيه، وحساسيته المفرطة ازاءه واستيعاب تفاصيله فضلاً عن انتمائه السياسي الوطني

كل تلك العوامل منحت شمران تفردا في مساحة الجمال التي شغلها لسنوات عدة من حياته فجاء منجزه مكتنزاً وحافلاً بالفرادة، وممتلئاً بالوضوح في حكايات متقنة ومفعمة بالخبرة والمعرفة والوعي الى جانب توفر قدرات الموهبة والاطلاع على الاتجاهات الفكرية والادبية.

وكتبت العديد من المقالات والدراسات في ملحق " عراقيون من زمن التوهيج" المخصص للمناضل ابو كاطع .. الملحق يحرره الزميل والصحفي علي حسين .



** إلى والدي **

بقلم : إحسان شمران الياسري

يوم 17/8/1981 توفي المرحوم شمران الياسري/ أبوكاطع في حادث سير وهو في الطريق من جيكوسلوفاكيا إلى هنغاريا لزيارة شقيقنا الأكبر المرحوم (جبران) الذي توفي هو الآخر في هنغاريا نهاية عام 2001.

وانتهت حياة المناضل العراقي (شمران الياسري)، أسطورة العمود الصحفي البارز الذي أسسه بصراحته المشهورة.. ومن سوء الحظ أن يُتوفى خارج العراق، ويكون في العراق نظام لا رحمة في قلبه، فيقرر أصدقاءه دفنه خارج الوطن، في لبنان في مقبرة الشهداء الفلسطينيين.. ولم يشهد أهله وزوجته وأولاده تغسيله ودفنه، مع إن أصدقاءه الذين جاءوا مع جنازته من (براغ) إلى بيروت متخفين بأسماء وهمية، تولوا تلك المهمة ..

وهكذا رقد ذلك الجسد النحيل المترف الأبيض في بيروت، في ضاحيتها يترقب بوابة المقبرة عسى أن يطل عليها أهله أو أصدقاءه.. واليوم يستذكر العراقيون مناضلا مميزا مثل (أبوكاطع)، والذي كوّن شخصيته من بين أكواخ الطين في أقاصي ريف الحي، وتتلمذ على يد والدته بمدارس القرآن الكريم والكتاتيب.. ثم دخل بغداد مثقفا واعدا، يشق طريقه في الصحافة والأدب، وقبل ذلك في النضال..

ومع إن لكل مثقف قصة، فان قصة (أبوكاطع) المميزة هي مسيرة حياته بالكامل، والتي بدأت خلال العقد الثالث من القرن الماضي، نحو عام 1927 في عائلة عريقة ومحافظة، عائلة السيد إبراهيم الياسري، عمه، ووالد زوجته لاحقا.. وهو عميد الأسرة الياسرية وأحد الشخصيات الكبيرة في وسط العراق.

يقول المرحوم أبوكاطع انه بدأ الكتابة في الصحف وهو في الريف، ولم يكن قد التحق بعد بمسيرة الشيوعيين الذين (كسروا رقبته) على حد قوله.. فقد بدأ يكتب اشياءا عامة، سب خلالها الغرب والشرق!. ثم التحق مع الشيوعيين في الطريق الوعر مطلع خمسينيات القرن الماضي (وقبل انه يبصر النور داعيكم!!).. وعندما فتحت وزارة التربية مدرسة حمورابي الابتدائية في مشروع الدجيلة، اخذ يتردد على المعلمين فيها وعقد معهم صداقات واتفاقيات لأخذ محاضرات في اللغة الإنكليزية وبعض المفردات الأخرى.. واستطاع أن يجتاز امتحانات المراحل الدراسية بسهوله..

وقد كان الأستاذ (بهجت ياسين) والأستاذ (حسين الربيعي) أطال الله أعمارهم ومتعنا بوجودهم، هم أساتذة المرحوم الوالد في خمسينيات القرن الماضي.. وبعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 انتقلنا إلى بغداد حيث كانت الأبواب أوسع لصاحب الذكرى في الصحافة والإذاعة، وبدأت إذاعة برنامجه المشهور(أحجيها بصراحة)، والذي أسس كما اعتقد، ويعتقد عدد آخر من الناس، للإعلام والأدب النابع من الريف..

فقد تحدث (أبوكاطع) في ارفع المنابر الإعلامية بلغة الريف المؤثرة، والتي لا تبتعد كثيرا عن لغة الشعب في كل مكان.. فاجتذبت ملايين المستمعين لبرنامجه.. يقول الأستاذ (فلك الدين كاكه يي)، وزير الثقافة في كوردستان، إن الكورد كانوا ينتظرون إذاعة البرنامج كما ينتظرها فلاحوا الجنوب والوسط، وينتظرها أهل المدينة.. بمعنى إن مثقفا في الثلاثين من عمره لمع في العراق في المرحلة التي أنتجت خيرة مثقفي العراق وشعراءه وحملة لواء الفكر.. فعاصر الجواهري والبياتي ومن هم بوزنهم..

وقد كانت نشرة صحفيي العراق تبدأ بالجواهري الكبير، ثم بالأستاذ جعفر قاسم حمودي، ثم شمران الياسري بالتسلسل. وكانت اكبر مساهمات المرحوم أبوكاطع في فترة الجمهورية الأولى هي جهوده في التبشير لقرارات الإصلاح الزراعي، وإجراءات تفتيت الملكية الزراعية، التي طالت كبار الإقطاعيين.. ولكم أن تتصوروا حجم الإحراج الذي وقع فيه السيد (إبراهيم الياسري) عندما اعتقد اقطاعيوا الكوت إن قرارات الإصلاح الزراعي وإجراءات المصادرة للأراضي هي من صنع السيد (شمران)، ومن وراءه عمه السيد (إبراهيم).. خصوصا وان السيد إبراهيم كان من صغار الإقطاعيين الذين طالتهم الإجراءات..

ولقد واجه أبوكاطع، مثلما واجه الشيوعيون محنة العلاقة مع الزعيم الراحل (عبد الكريم قاسم) رحمه الله.. فالمرحوم قاسم كان محبوبا من العراقيين.. وكان الشيوعيون هم حراس النظام والذائدين عنه.. ولكن الزعيم كان (يمون) كثيرا عليهم، فيزج هذا في السجن، ويسمح للأمن بملاحقتهم، فدفعوا ثمنا كبيرا من حبهم وولاءهم له.. وهكذا ألقي المرحوم أبوكاطع مع عشرات المثقفين العراقيين في السجون بسبب الوثيقة التي وقعوها لنصرة القضية الكوردية.. واضطررنا للعودة إلى الريف بانتظار إطلاق سراحه. وقد ظل في السجن نحو سنة، وأطلق سراحه قبل انقلاب شباط 1963 الأسود بشهرين.

وواجه مجددا محنة التصرف إزاء الإحداث الدرامية التي وقعت في البلاد صبيحة ذلك اليوم الرمضاني المرعب. فاختبأ في بيوت أعمامي في بغداد نحو أربعة أشهر، ثم نقل إلى ريف الكوت من قبل سائق مغامر سلك طرقا عجيبة لإيصاله هناك. وفي مطلع شباط من هذا العام، أتيحت لي فرصة لزيارة بيروت، تلك المدينة التي لا تعرف بحرها من جبلها من ضاحيتها.. وأول ما فكرت به وأنا أضع قدمي في مطار رفيق الحريري الدولي هي المقبرة، التي تحتضن بثقة وصمت ذلك الجسد النحيل لصاحب الشخصية القوية التي أفزعت صراحتها ذهنية الرقيب في القرن الماضي.

وبعد بحث غير طويل وصلت إليها، ليتحقق الحلم بعد ربع قرن من انتظارنا وغربة الجسد.. وبعد ربع قرن من الشوق إلى الوالد والصديق والمعلم. لقد وصلتها تحت المطر.. لم تكن مقبرة.. كانت حديقة أو متنزه، غمرته أزهار الربيع البرية قبل أن يطل الربيع..

كان الضريح في نهاية المقبرة، بين حشد الشهداء، يجمعهم صمت الشهادة المهيب، ووقار الموت. قلت: هذا أبي. كانت قطعة الحجر التي تغطي قبره تماثل كل القطع التي تغطي قبور رفاقه الشهداء: (ضريح الشهيد شمران الياسري.. مواليد...... استشهد 1981).. وتركوا تأريخ ميلاده فارغا..

ونزلت الدموع بين ثنايا الكبرياء والتكبر.. لم ارغب البكاء، ولم يسعفني بالأحرى. فهذا موقف فريد لرجل فريد.. والبكاء يضيع فرصة القوة التي يمكن أن ندعيها في لقاء ربما لن يتكرر.. ولقد شغلتني بهجة اللقاء على مرارته، من التفكير به ميتا.. بل تصورته حاضرا يجلس على مكتبه، يدخن (البايب)، ويكتب عموده اليومي، ويدندن بعض الكلمات أو المقاطع غير المكتملة لإحدى الأغنيات.

وشغلتني أزهار الربيع الفاتنة، وجمال المكان، عن التفكير بالحزن الذي ينتاب الأحبة وهم يقفون أمام الأضرحة الغالية. ولما انتهيت من قراءة سورة الفاتحة المباركة عشرات المرات بأسماء أهلي وأصحابي الذين استودعوني أمانة قراءتها في حضرة ضريحه، وقفت ابكي بعد أن شبعت من استيعاب المكان، واستوعبت حقيقة موته أمام قبره الذي غمرته أزهار الربيع.. ومع إنني رأيت هذا، فقد رأيت شيئا آخرا.. إن مساحة المقبرة محدودة، وقد بدأ (الدافنون) يزيحون بعض القبور التي لا يراجع أهلها، ويدفنون محلها موتى جدد.. وقد أفزعتني هذه اللقطة المخيفة من مصير الضريح الغالي للمرحوم أبوكاطع.. وفكرت لأول مرة في نقله إلى العراق، بعد أن اعتبرنا إن دفنه في لبنان هو جزء من المصير الذي كتبه له الباري عز وجل، ولم نفكر في نقل الجثمان إلا عند هذه الظروف.

ولأن أبوكاطع هو جزء من موروث الشعب العراقي ومصدر فخره، فقد نفكر بنقل الجثمان إلى العراق واستحصال الموافقات الأصولية. خصوصا بعد أن يستقر الوضع في لبنان الجريح.

السلام عليك أبى.. مع إنني لا ادري إن كانت التحايا تصل إلى الراحلين، وتعّبر عن مشاعرنا نحن الأحياء المنتظرون رحيلنا الأبدي..

منذ غادرت بلادك عام 1976، ثم موتك المفجع عام 1981 ونحن نعيش في عبق أنفاسك في هذه الحياة.. ونفخر (بخوف) بأنك أبينا، ويتصرف الآخرون معنا بما تسمح به ظروفهم من الاحترام والتقدير والمحبة، فيما يتصرف معنا أناس آخرون بالعداوة التي تستحقها مواقفك العنيدة، وشجاعتك التي أوقدت عندهم قلقا لم يهدأ حتى بعد موتك..

ومع إننا، ككل اليتامى، افتقدنا وجودك بيننا، فانك كنت حاضرا بما شيّد قلمك وفكرك وفنّك الرائع.. فكان اسمك وتراثك عزاءا بالغا لنا.. وكان ذلك بكل المعاني، فخرا موصولا حتى في مواقفنا عند أعداؤك.. وقد وضع اسمك، وهيبة فكرك، علينا التزام التحّصن بالصدق والنزاهة ومحبة البلد وناسه، وبصنع المعروف حتى مع من لا يستحقون..

كنا نراقب صورتك شابا، وصورتك في المؤتمرات، ومع أصدقاءك.. ونقول انك حي في هذا الاحترام الذي يحتضن تأريخك المضيء، عبر حياتك التي انتهت بعجالة - ويا للأسف -.. وبعد سقوط الحكم البعثي، كنت لنا جسرا لتقدير الآخرين وحبهم. فقد جاء المحرومون من المنافي يسألون عن رفاقهم وعن أولاد رفاقهم..

وكنا إذا التقينا بعض وجوه العهد الجديد ومناضليه، ممن أتعبهم الحرمان والعمل السري، كانت إشراقة كبيرة ترتسم على وجوههم وهم يقولون بمودة بالغة: - يا هله بريحة (أبوكاطع).. وكان بعضهم يفخر بلقائنا.. وقد فتحت لنا صحف البلاد أبوابها، ليس لأننا صحفيون (كما ندّعي)، بل لأنك كنت صحفيا عجيبا، وكان زملائك ورفاقك في المهنة الراقية يقدّمون الاحترام إليك فينا. واكتشفنا انك اكبر وارفع مما كنا نعتقد.. فلقد كنت ابنا للعراق كله، وليس لفكرة واحدة أو حزب واحد..

فإذا مررنا بمحنة، أو عبّرنا عن حاجة ولو بالإشارة، وجدنا أهلنا في مؤسسات الدولة وفي الأحزاب، والصحافة، يحملون الخناجر للدفاع عن اسمك.

سلام لأسمك بين شقوق الأرض التي غادرتها عطشان لثنايا ضفاف دجلة، ومرابع صباك في ريف الحي، وفي ذاكرة أصدقائك العرب والكورد والمسيحيين..

وسلام لأنفاسك التي ما زالت في مكتبتك العزيزة.. وبين أربطة العنق التي تحتفظ بها أمي في الحقيبة (الدبلوماسية).. وبين الناس الذين لا نعرفهم ولكنهم يعرفونك ويعرفونا..

فخلال الإعداد للانتخابات السابقة، كانت إحدى الفضائيات تتلقى مكالمات هاتفية من المواطنين عن الانتخابات، فتحدث السيد (أمين يونس) من دهوك يدعو أهل البصرة للتصويت إلى قائمة اتحاد الشعب هكذا: (أيها الأخوة، أدعوكم للتصويت لقائمة اتحاد الشعب، وراح يتحدث عن مزايا تلك القائمة وعلاقة مبادئها بالناس. ثم قال: إن روح المرحوم شمران الياسري تدعوكم للمشاركة.. تذكروا أبوكاطع وخلف الدواح وناصر بن حسين)..

وقد شعرت بالامتنان والاعتزاز لان أبناء شعبك لم ينسوا سحر قلمك وهو ينثر الصراحة والسعادة كما ُينثر الهيل فوق رؤوس العرسان، وكما غنت البصرة مواويلها عند مطالع المشاحيف وهي تمخر ماء الشط الغاضبة..

وها هو رجل من دهوك، تلك المدينة التي تحلم بين صخور الجبال وبين ثنايا الشمس المغرورة، يستذكر وجه شمران وقلبه وقلمه وفكره، ويضغطها كلها في كلمات ممتلئة بحب العراق وأهل البصرة و أبوكاطع.. وها هم رفاقك أدباء العراق ومثقفوه يمنحوك درع المتنبي، ذلك الشاعر الهائل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ثم مات غريبا في مدينة (النعمانية)، كما دفنت غريبا في (بيروت) بين الشهداء..

وها هي صحف بلادك تفتح لذكراك ببالغ الاحترام، كل الفرص ليستذكرك جيل ضاع بين المآسي والنسيان وبين الحروب..

وها هي وزارة الثقافة ورجلها المثقف الرائع، الأستاذ مفيد الجزائري، تعيد طبع روايتك الرائعة (قضية حمزة الخلف) التي تحكي قصة الأيام المظلمة التي مرت على العراق وريفه بعد شباط الأسود عام 1963.. عندما تحولت قضية حمزة الخلف من مطالبة بساقية لإيصال الماء لقطعة أرضه الخاصة، إلى قضية العراق الذي كان في السجون بأسره..

علي إبراهيم

02/01/2010