" أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ . أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ "
(الواقعة:59,58)
من الدلالات اللغوية للآيتين الكريمتين :
(المني) في اللغة هو التقدير , يقال : (مني لك الماني) أي: قدر لك المقدر; و (المني) هو السائل أو السوائل الحاملة للنطف (خلايا التناسل) التي قدرت بها الحياة , وجاءت هذه اللفظة بتصريفاتهاالمختلفة في كتاب الله المجيد أربع مرات كما يلي :
(1)" وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى . مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى "(النجم46,45) أي : من نطفة إذا تقدرها العزة الالهية أو تخصب بنظيرها من نطفة مقابلة .
(2)" أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ . أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ "(الواقعة:59,58) أي : ما تنتجون من النطف , أو ما تخصبون منها .
(3)" أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى . ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى . فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى"(القيامة:37-39) .
ومن (المني) جاءت لفظة (المنية) وهي الأجل المقدر للكائن الحي بالموت , وجمعها (المنايا) , و(المنون); يقال (مني) له; أي : قدر له , لأن الموت مقدر على كل حي .
(المنية) واحدة (المني) , و (الأمنية) واحدة (الأماني) وجمعها (أمان) و(أماني) بالتخفيف والتشديد.. و(تمنيت) الشيء أي: قدرته وأحببت أن يصير إلى. يقال : (تمني) الشيء أي طلبه في نفسه وصوره فيها من قبيل التخمين والظن أو عن روية وبناء على أصل وإن كان أغلب التمني تصور ما لا حقيقة له , و (الأمنية) هي الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء. يقال: (منيتني) كذا; أي: جعلت لي أمنية في كذا بما شبهت لي , قال تعإلى مخبرا عن الشيطان الرجيم في محاولته إغواء بني الإنسان :
" وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ "
(النساء:119)
ويقال : (مني) غيره (تمنية) أي وعده بما يطلبه في نفسه ويرجوه . ويقال (تمني) الكتاب أي قرأه , و (يتمني) الأحاديث أي يفتعلها وهو مقلوب من (المين) وهو الكذب .
(خلق) : أصل (الخلق) التقدير المستقيم , ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء , كما يستعمل في إيجاد شيء من شيء آخر , وليس الخلق الذي هو الإبداع إلا لله ـ تعالى ـ وحده , أما الخلق الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله ـ تعالى ـ لغيره في بعض الأحوال. و (الخلق) لا يستعمل في الناس إلا على وجهين: أحدهما في معني التقدير , والثاني في معني الكذب أو (الاختلاق والافتراء) .
و (الخلق) و (الخلق) في الأصل واحد , ولكن خص (الخلق) بالهيئات والأشكال , والصور المدركة بالبصر , وخص (الخلق) بالقوي والسجايا المدركة بالبصيرة , وعلى ذلك فإن (الخلاق) هو ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه. يقال: فلان (خليق) بكذا , أي: جدير به , كأنه مخلوق فيه ذلك , فـ (الخلقة)و(الخليقة) هي الفطرة والجمع (الخلائق) .
من الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين :
تشير هاتان الآيتان الكريمتان إلى طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في خلق الإنسان الذي خلقه الله ـ تعالى ـ بيديه , ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها , وأسجد له الملائكة , وكرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا.وكان من هذا التكريم أن خلق له من نفسه زوجا , وجعل بقاء نوعه إلى أن يشاء الله ـ تعالى ـ قائما على التكاثر بالتناسل , وهي عملية معجزة تشهد لهذا الإله الخالق بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه .
فمن خليتين ضئيلتين لا تريان بالعين المجردة حيث لا يزيد طول الواحدة منها في الرجل على(005. ـ مم) وفي (المرأة عن (2. ـمم) يخلق ربنا ـ تبارك وتعالى ـ الإنسان اليافع الذي يتكون جسده من ألف تريليون خلية في المتوسط تنتظمها أنسجة متخصصة في أعضاء متخصصة في أنظمة متخصصة تعمل في تناسق عجيب لخدمة هذا المخلوق المكرم.
وإذا علمنا أن جسم الإنسان يتكون أساسا من الماء بنسبة تصل إلى70% في المتوسط , بالإضافة إلى مواد صلبة تشكل حوالي30% من كتلة جسم الإنسان , وأن أغلب تلك المواد الصلبة يكونه عنصرا الكالسيوم والفوسفور يليهما في الكثرة عناصر البوتاسيوم , الصوديوم , الكبريت , المغنسيوم , الكلور , الفلور , البروم , اليود , والحديد , مع آثار ضئيلة من عناصر النحاس , المنجنيز , الزنك , الموليبدينوم , والألومنيوم , وهي في مجموعها لا تكاد تختلف عن التركيب الكيميائي لتربة الأرض .
والتركيب الكيمائي للخلية الحية لا يكاد يختلف عن ذلك , وهو معروف مائة بالمائة , وقد عجزت البشرية كلها عن إيجاد خلية حية واحدة , وإذا علمنا ذلك أدركنا أن سر الحياة موجود في النطف المتناهية الضآلة والتي يفرزها الإنسان مع منيه , ذكرا كان أو أنثي , ومن هنا كان السؤال الاستنكاري التوبيخي , التقريري الموجه للكفار والمشركين في كل زمان ومكان والذي يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ فيه :" أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ . أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ . نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ . عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ . وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ "(الواقعة:58-62).
ويتكون جسم الفرد البالغ من البشر من ألف تريليون خلية في المتوسط كما سبق وأن أشرنا , وبعض هذه الخلايا يمكن رؤيته بالعين المجردة , ولكن أغلبها على قدر من الضآلة بحيث لا يتعدي قطر الخلية 03. ـ من المليمتر , وتتنوع الخلايا بتنوع وظيفة كل منها فهناك خلايا العظام , وخلايا اللحم من مثل خلايا كل من العضلات والأنسجة الضامة , والجلد , وخلايا المخ والأعصاب , وخلايا كل من الدم والليمف , وخلايا الأنسجة فائقة التخصص من مثل خلايا كل من القلب , الرئتين , الكبد , الكلي , وخلايا كل من الجهاز الهضمي , والجهاز التناسلي , وغيرها , وكل ذلك مختزن في الشيفرة الوراثية للخلايا الناسلة .
<HR SIZE=1>