*وما انْسَدَّتِ الدنيا عليّ لِضِيقِهَا
ولكنّ طرفًا لا أراكِ به أعمى!
*"أبو الطيب باكيًا"
"حَقِيقَةٌ مَحْضَةٌ"
لم يزل على مِسَاسٍ بهذه الأنداء السماوية التي تُوَاعِدُه عند الأَسْحَارِ ..
في أحراش الليل، وخيام الظلام المنصوبات على مَدِّ البصر ..
سَعَيْتُ إليه ..
ووجَدْتُه وحْدَهُ، كعادَتِه، ..
يهينم بأذكاره ودعواته.. قد علم أن حَيَواتِنَا تَنْقَلِبُ إلى حَطَبٍ يابِسٍ مالم تَمَسَّهَا أنداءُ الأسحار ..
وأنّ حَقَائِبَ العُمْرِ ستظل مُفْلِسَةً إذا لم تُزَوَّدْ في خَلَوَاتِ اللَّيْلِ!
اعتذرتُ إليه عن مَجِيئِي ليلًا
فتبسم بسمته الحزينة، وقال: إنما هذا الليل الذي ترى-ولا أراه- بقايا تلك النفوسِ الآسِنَة التي أرى، ولا ترى!!
ربما يكون الليل أرحب لِلَوَاعِجِ "الضرير" من النهار الذي يضيق بناسِهِ..
وإن كانا لوحةً أُحَادِيَّةَ اللَّوْنِ في دُنْيَا البَشَرِ..!
ولكنْ لا بَأْسَ من الفِرَارِ منهم بالرَّكْضِ لَيْلًا..!
ثم رفع رأسه إليّ=كأنما سمعني أتساءَلُ في نفسي: أيُّ رَكْضٍ لضرير؟!=
وقال: قد فَرَغْتُ من حياة التُّرَاب، وخَلَعْتُ من زمنٍ مِعْطَفَ الغُبَارِ، ووجدتُ لي منافِذَ إلى السماء حين عَلَّقَ الفَانُون لافتةً مكتوبًا عليها: لا تقترب..!
أترى الكونَ هو ما نتَّصِلُ به فيَحُدَّنا، أم ما نَسْعَى إليه فنُوجِدَه؟!
كم من مصفودٍ بأغلال الجسد، يقطع طريقه بالأقدام، ولم يسر منه خطوة؟!
ومن قاعدٍ في ضِيقِ جَسَدِهِ، قد اتسعت نفسه بِهَرْوَلَةِ اليَقِين!!
قَيَّدُونِي بالضَّيْمِ تحت أشجار الواقِعِ اليابِسَةِ..
حاصروني في عتمة الليل بِسَلْبِ عينيّ مِنِّي..
أحرقوا ضفائِرَ شمسي المنسدلِةَ على شُرُفات وجودي..يُرُيدُونَنِي أن أكون فريسةَ ليلِهِم!
كم رَتَعُوا في طرقات قلبي بأحذيتهم المسْمَارِيّة، حين عَجِزُوا عن نَقْضِ الحقيقة، فاستراحُوا إلى نَسْجِ البَاطِل..!
صَدِّقْنِي.."إن أصْعَبَ الصَّعْبِ أن تتقلص الإنسانية في الإنسان، وتتحوَّلَ إلى وجودٍ يابِسٍ، يَصِير من بَعْدُ قِشْرَةً مآلها إلى الهشيم"!
"الرحمة".."الصدق".."المحبة الخالصة"..تلك المعاني الرَّبِيعية، ذَبُلَتْ في خريف النفوس..إلا غُصُنًا أَخْضَرَ ها هنا..وغُصُنًا آخر هاااااااهناك!
وقد حاوَلُوا..
أوْغَلُوا في المحاولة..فأوْغَلْتُ في مَدِّ أسبابي بالعرش..!
صحيحٌ..ربما أكَلَتْنِي أرصفة الحزن أكْلًا..ربما..
ربما شَنَقَتْنِي الهموم ، حتى لَأُحِسُّ أنَّ لوجودي معنى التَّنُّور..ربما..
ربما امَّحَتْ خلايا وأنْسِجَةٌ لم تحتمل عواصِفَ التفكير التي لا تَهْدَأُ..
ربما..ربما..
فالصِّدْقُ له ضريبةٌ مَقْسُومَةٌ من العَصَبِ والجسد، والصِّحَّةِ والقُوَّةِ!
وهو كالطِّفْلِ العنيد، لا يرضى إلا أن يستوفي حَظَّه كله من صاحبه..ولا يقنع يومًا ما بالفُتَات!
ولكني رَضِيتُ به قَسْمًا..
احتملت سياطَ القَهْرِ والحرمان..والعمى..
وقَرَنْتُ مرارةَ الصَّبْرِ بسكون الرِّضَا..وقلتُ: رَضِيتُ رضيتُ..
حالوا بيني وبين كُلِّ أسبابِ الحياة..تَصَبَّرْتُ..
كنت أريد فقط أن يجيبوني: لِمَ..لِمَ!!؟!
كنت أريد أن "أَسْكُنَ"..لِأَعْبُدَ..
أنْ أَهْدَأَ لِأَتَضَرَّعَ..
أن أبتسم لِأَغْرِسَ أزْهَارَ الشُّكْرِ..
أن أعيش أيامي في عملٍ يصلني بِآخِرَتِي..
لمَ..لمَ..؟!
....
..
..
ثم سكتَ قليلًا وهو يُحْكِمُ السَّيْطَرَة على دَمْعَةٍ أرادت أن تُطِلَّ من عَيْنَيْهِ..ثم قال:
العَطَشُ شديدٌ..عَطَشُ المسافات حين يُحَالُ بَيْنَكَ وبين رُوحِكَ!
فكلما اتَّسَعَتِ المسافات وتباعَدَتْ,, ضاقَتِ النفس،،ضاقت الحياة،،ضاق الوجود..
الروح هي كلمة الحياة،، وما من كلمةٍ تبقى وقد غادَرَها المعْنَى!
ياللبَشَر!!
يريدون اختراع قامُوسٍ جديدٍ، تصْطَفُّ فيه الكلماتُ ومِن أمامها بياض الصَّمْتِ؛ فهي لا معنى لها!
وهي الحياة أيها الناس..إذا لم تكن من القَلْبِ، كانتْ من الْقَبْرِ!!
هي الحياة أيها الفانون..لا يصلح فيها الـ "بَيْنَ بين"..لأن الـ "بَيْنَ بين" موتٌ مُتَحَرِّكٌ تأخرتْ عنه شهادةُ الوفاة!
هي الحياة بقانون الرُّوح، لا المادة..فلا يَصِحُّ أن تنمو فيها الزَّهْرَةُ نُمُوَّ الحَجَرِ!
ولكني ما حِدتُ- حاشاني!-..وهل أستطيع؟! "أين يمضي هاربٌ من دَمِهِ"؟!
إنها لَحَيَاةٌ واحِدَةٌ..ورُوحٌ واحِدَةٌ..وقَلْبٌ وَاحِدٌ..
لذا أُرَابِطُ على هَرْوَلَةِ اللَّيْلِ..
على سَجَدَاتِ الأسحار..
حينما تتحول اللحظات إلى مِسْبَحَةِ سَكِينَةٍ..
أُهَرْوِلُ..أرْكُضُ..أَشْتَدُّ في العَدْوِ..أُحِلُّق هنالك هُنَالِكَ في حقول اللَّيْلِ..
(لِتَسْقُط كل المسافات..ولتطيرَ العوالم كلها عني، ولِتُسَافِرَ الأزمنة والأمكنة والعواصم والمدائن في قطارات الغبار..وأبقى في "نوري"..كَوْنِي وعَالَمِي وكِفَايَتِي)..
_ _ _ _ _ _
قطع كلامَهُ صوتُ "الكروان" المحبوسِ في قفصٍ هناك، وهو يُنْشِدُ في ضَرَاعَةٍ مسكينة بصوتٍ مَكْلُومٍ ما تَرْجَمَتُهُ:
"نُصَلِّي معًا في ظِلَالِ الْهُمُومْ
ونَعْلُو إلى طُرُقاتِ النُّجُومْ
ونَسْتَمْطِرُ الغَيْثَ مِنْ رَبِّنَا
فَتَهْمِي السَّمَاءُ بِفَيْضِ الكَرِيمْ"
ممارق لي كثيرااا