كلام عن السحر في القرآن
هل اعترف القرآن بتأثير السحر تأثيراً وراء مجاري الطبيعة، حسبما يزعمه أهل السحر والنفاثات في العُقد؟ ليس في القرآن ما يشي بذلك سوى بيان وَهن مَقدرتهم وفضح أساليبهم بأنها شعوذة وتخييلات مجردة لا واقعية لها. يقول بشأن سَحَرة فرعون: (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) طه/ 66. فكان الرائي يتخيل أن تلك الحبال والعصي تسعى، أي تنزو وتقفز وتلتوي على أنحاء الحركات التي كان الناظرون يحسبونها حركات حياتية وأنها حيات ثعابين متهيجة.
قال الطبرسي: لأنها لم تكن تسعى حقيقة، وإنما تحركت لأنهم جعلوا في أجوافها الزئبق، فلما حميت الشمس تمددت الزئابق فحصلت على أثره تلك التحركات، وظُنّ أنها تسعى.
وذلك أنهم أخذوا مصارين أو اُدُم مصنوعة على صُوَر الحيات والأفاعي، وجعلوا في أجوافها زئابق وتركوها بصورة العصيّ والحبال في ساحة بعيدة عن متناول الناس ومشاهدتهم القريبة. وكانت الساحة قد حفرت تحتها أسراب وأشعلوا فيها ناراً فأثرت حرارتها من تحت وحرارة الشمس من فوق، فجعلت الزئابق تتمدد وتتقلص، وتراءى للناس أنها تسعى. ومن ثم قال تعالى: (سحروا عين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم) الأعراف/ 116. وما هي إلا شعوذة لا واقع لها سوى تخييل ظاهري مجرد.
قال الطبرسي: احتالوا في تحريك العصي والحبال بما جعلوا فيها من الزئبق حتى تحركت بحرارة الشمس وغير ذلك من الحيل وأنواع التمويه والتلبيس، فخُيل إلى الناس أنها تتحرك على ما تتحرك الحية. وإنما سحروا أعين الناس، لأنهم أروهم شيئاً لم يعرفوا حقيقته وخفي ذلك عليهم لبعده منهم، فإنهم لم يدعوا مجالاً للناس كي يدخلوا فيما بينهم (خوف فضح أمرهم).
قال: وفي هذا دلالة على أن السحر لا حقيقة له، لأنها لو صارت حيات حقيقة لم يقل الله سبحانه: (سحروا أعين الناس) بل كان يقول: فلما ألقوا صارت حيات. وقد قال سبحانه أيضاً: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى).
وأما وصف سحرهم بالعظمة، فلأجل استعظام الناس ذلك المشهد الرهيب.
يقول الرازي في ذيل هذه الآية: واحتج به القائلون بأن السحر محض التمويه. قال القاضي: لو كان السحر حقاً لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم، فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالاً عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه.
قال الواحدي: بل المراد، سحروا أعين الناس أي قلبوها عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات. وقيل: إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق في دواخل العصي، فلما أثّر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جداً، فالناس تخيلوا أنها تتحرك باختيارها وقدرتها.
قال الإمام الجصاص: ومتى أطلق السحر فهو اسم لكل أمر مموه باطل لا حقيقة له ولا ثبات. قال الله تعالى: (سحروا أعين الناس) يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى. وقال: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) فأخبر أن ما ظنوه سعياً منها لم يكن سعياً وإنما كان تخييلاً. وقد قيل: إنها كانت عصياً مجوفة قد ملئت زئبقاً وكذلك الحبال كانت معمولة من أدُم محشوة زئبقاً وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسراباً وجعلوا آزاجاً وملؤوها ناراً. فلما طرحت عليه وحمي الزئبق حرّكها، لأن من شأن الزئبق إذا أصابته (حرارة) النار أن يطير. فأخبر الله أن ذلك كان مموهاً على غير حقيقة. والعرب تقول لضرب من الحلي مسحور، أي مموّه على مَن رآه مسحور به عينه.
وهكذا ذهب الإمام محمد عبده في تفسيره قال ـ بعد نقل كلام الجصاص ـ : فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية، إذا صح الخبر. ويحتمل أن يكون بحيلة أخرى كاطلاق أبخرة أثرت في الأعين فجعلتها تبصر ذلك. أو بجعل العصي والحبال على صورة الحيات وتحريكها بمحركات خفية سريعة لا تدركها أبصار الناظرين.
وكانت هذه الأعمال من الصناعات وتسمى السيمياء وهي لغة يونانية تعني الشعوذة والنيرنج. هي عبارة عن مزاولة أعمال خفية سريعة تتراءى للنظارين أشكالاً على غير واقعها، وربما باستعمال مواد كيمياوية تخفى على الناظرين. وهو متعارف حتى اليوم لغاية إلهاء الناس في مجالس اللهو والسرور ومناسبات الأعياد والأفراح.
قال الزمخشري: (سحروا أعين الناس) أروها بالحيل والشعوذة وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه.
إذن، فلم يثبت من هذه الآية اعتراف للقرآن بحقيقة السحر سوى الشعوذة والتوسل بالحيل للتمويه على أعين الناس، هذا فحسب. وهناك آيات أخر استندوا إليها لهذا الاعتراف المزعوم، كالآيات الواردة بشأن سَحَرة بابل في سورة البقرة. وكذا سورة الفلق (النفاثات في العقد). وسنتكلم عن ذلك أيضاً بعد الكلام عن أقسام السحر ورأي علماء المسلمين فيه. وسيبدو بعون الله تعالى أن تلكم الآيات أيضاً بعيدة كل البعد عما رامه الزاعمون وأن ليس في القرآن ما يشي باعترافه بحقيقة السحر بتاتاً.
*المصدر : شبهات وردود حول القران الكريم
د. محمد هادي معرفة