الغربة تلك المفردة القاهرة المبكية التي طاردت العراقيين على وجه التحديد في بلاد المنافي منذ أكثر من ربع قرن بسبب سياسة التهميش والقتل والموت المجاني والمعتقلات والحروب والويلات والحصار فكان الناتج المؤلم هو حصاد الغربة - هوا لرحيل الى بلاد المنافي والضياع في محطات الغربة.
قحطان العطار هو احد الأصوات السبعينية المتألقة التي أغنت الساحة العراقية بالكثير من الأغاني الرومانسية الجميلة والتي طبعت بصماتها في أعماق الوجدان العراقي ونسجت خيوط صوتها بحلاوته وعذوبته في مملكة الذائقة العراقية الأصيلة فكان دفء الأساس والشجن والحزن العميق يؤطر أداء العطار صاحب أجمل صوت عراقي.
قحطان العطار لم يوفق في بلاده الجريح في فترة الثمانينيات لهذا امتطى جواده ورحل الى بلاد المنافي حيث الحرية والأمان ولأنه رفض أن يكون مثل طائر في قفص السجون يغني فقط لسجانه المجنون متى ما شاء السجان أن يطلب منه الغناء – رفض العطار تلك الثنائية التناقضية فكان نموذجا للحرية الجميلة – ومن هنا سلك طريقه المعبد بالألم وشوك الغربة ليمثل نموذجا للإنسان الحّر ولكي يطلق صوته المذبوح حنينا وغربة ليدوي في سماء الحرية , ورافقه في هذا الهاجس الجميل الفنان الكبير فؤاد سالم ليشكلوا معا منعطفا متفردا في ذائقة الغناء العراقي وليؤسسوا معا مدرسة الاغتراب العراقي.
ارتسمت الغربة عند قحطان العطار بأشكال متعددة , غربة الوطن , غربة الأهل , غربة الأم الحبيبة التي فقد صوتها وصورتها , غربة الأصدقاء - فهو يستشعر بغربته من حين لحين , فيهزه الشوق المعطر بالحنين حينما يخيم الظلام وهو في المنفى وحيدا غريبا , فتتجسد في ذاكرته صورة الأم الطيبة , حيث يقول:
وجه أمي أطيب من وجه أطيب حبيب . . . تغيب شمس الله ووجهه نجوم ماتفعل تغيب
لقد صورّ غربته وهو يناغي ويحاور أمه وكأنه يبث شكواه الى الزمن القاتل:
يمه العمر وياي ما أنصف وجار وين ارحل بممشاي كل يوم ألي جار
يمه العمر وياج خير وشناشبل وآنه ارجع اليابيت لو جلجل الليل
تتجسد الغربة المؤلمة في حياة قحطان العطار بانهيار وجداني إلى درجة البكاء عندما يتساءل بعفوية " أين الفرح - والهموم قد أحاطت به مثل وحوش كاسرة" , معلنا ثورته الوجدانية من خلال أغنيته الرائعة المحببة للجميع والتي أبكت بصدق حتى القلوب المتحجرة لما فيها من عاطفة جياشة وعمق وجداني:-
يكولون غني بفرح وآنه الهموم أغناي
بهيمة زرعوني ومشوا وعزّو عليه الماي
ويتساءل مستغربا عما أظهرت له الأيام من صفعة قاصمة وهو يتنقل في مدن الغربة متوجا بانكسارات القلب وخذلان الأصدقاء والأحباب :-
بدولاب فرني الوكت وخميت الولايات
الغربة صارو هلي وخلاني الشمات
ومابين شوك وصبر. . . خلصن سنين العمر
أما زامل سعيد فتاح فيهديه قصيدته الجميلة التي تحاكي مشاعر قلبه تجاه صديقه المهاجر في ايطاليا , فيضفي عليها قحطان العطار لمسات الإحساس الوجداني الجميل المموسق بالحزن والحنين:
ياغريب الدار عن دار الأهل هاك بوسة شوك معتز بيها
هاك بوسة ألعينك الحلوة كحل بوس بيها أحبابك وناغيها
من نواعير الغفت حدر النخل . . . من ثنايا الهور من برديها
هاك وادري الغربة ابد ما تنحمل وادري بيك بصبرك تلاويها
هاك وادري بدمعتك ترفه وتهل وادري بيك بمستحه تداريها
من منا لم يستشعر بروائع أغنياته الرومانسية العذبة كقطر الندى على القلوب الظامئه , تلك الأغاني الشفافة التي ما أن تطاردك لوعة الحب وعذاباته ولهيب نهاراته وسهر لياليه حتى تدندن مع نفسك بكلماتها المليئة باللوعة والعتاب " زمان يازمان – يافيض - يكولون غني بفرح – لوغيمت دنياي – انته انته – آه يازماني – متى الجية – فرح يهل الفرح – نطرته وراح – بالكيف هو الفرح- لايحبيب لاتنساني – أنا روحي وياك – ياضوى ولاياتنا – ولفي وأريده من هله - تتنور الأيام" , وغيرها من الأغاني الجميلة , أما أغنيته الأسطورة "شكول عليك أكول أنساك روحي وياك . . . شكول عليك أظل زعلان مّر فركاك" فأنها أصبحت بلا منازع سيمفونية العشاق تسمعها على شفاه كل الناس وما أن ترددها حتى يبادرك الشخص الأخر من حيث لايشعر بتكملة الأغنية الساحرة.
في بواكير أيام شبابه طرقت أقدام الفنان الإنسان الشاب قحطان العطار أبواب المنافي في أول محطاته عند سفره الى الولايات المتحدة ليؤسس أول نواة للغربة وبعد رجوعه في مطلع الثمانينيات من العام المنصرم الى بلاده العراق شعر بأن العراق لم يعد عراق يحترم الإنسان , فلغة الحرب والنفاق الفني قد أسست مملكتها النفعية وأخذت تصهر بحرارتها المتوهجة كل الثلوج البيضاء الجميلة – وتقتل بأسلحتها الدموية كل الطيور الوديعة المعشعشة في أيكات الحب - هذه الأمور شكلت هزيمة مبكرة لرحيل قحطان العطار مرة ثانية الى بلاد الغربة.
من يتأمل خارطة الواقع العراقي منذ ثمانينيات القرن المنصرم , , يجده واقعا مأساويا مدججا بحراب الألم - البعض راح يؤسس مملكته المادية , والبعض الأخر راح يجري وراء الشهرة , والبعض الأخر راح يجري وراء الحروب ولغة الدم , اما قحطان العطار صاحب الصوت الجميل الصّداح والكلمة المعبرة واللحن الشفاف فراح يجري في بلاد المنافي ليؤسس عالمه الخاص – عالم الغربة , فأطلق صدى صوته المبكي ليهز شباك القلوب الحزينة التي أمطرها الزمان حزنا وعذابا – راح يترجم أهات العراقيين بلغة شفافة جميله يستذكر من خلالها كل الأهل والأصدقاء , أنهار العراق , مدن العراق , قرى العراق , اهوار العراق , أطفال العراق , أوجاع العراق , دموع العراق.
قحطان العطار تمرد على واقعه المؤلم الحزين فراح يتنقل في محطات الغربة حيث يصور نفسه في أغنيته الحزينة "محطات" والتي يبدو فيها كأنه قد ضاقت به السبل ولم يعد يعرف من أين الطريق إلى أهله وأحباءه المفقودين . . . حيث يقول:
"صار العمر محطات عديتهن ماظل عرف
صار العمر محطات رت اندل بس مامش عرف
يافشلة الملهوف المايندل هله . . . يافشلة المايوصل الديرة هله . . .
ياعيني يا جنة هلي . . . ياروحي يا ديرة هلي
وصفوك ألي النواطير وكالولي روحك غافية بين الورد والأزهار
وصفوك ألي النواطير وكالولي روحك غافية بين ألعشك والأسرار
وكبلك ردت امسافر اليندل هلي . . . ياروحي ياديرة هلي"
أنه يسكب على مسامعنا أجمل الألحان في اغذب القصائد وأروع الأداء – أتذكر في بداية الثمانينيات من القرن الماضي لا تجد بيتا يعشق الموسيقى والغناء الأصيل إلا وتجد كاسيتات وأغاني العندليب قحطان العطار.
في إحدى الأيام وأنا أتجول في شارع الجمهورية لشراء بعض الملابس سمعت صوت قحطان العطار في أغنية "وعينيك يا بشرى" وعندما نظرت الى صاحب المحل وإذا به رجل مصري الجنسية , سألته هل تستمع لكل المطربين العراقيين – تبسم وقال فقط قحطان العطار – سألته لماذا قحطان العطار بالذات!- أجاب لأنه الوحيد الذي اشعر بأنه يغني من أعماق قلبه , بصدق وعذوبة تجعل المستمع يـتأمل كلمات اغنياتة الجميلة باندماج تام بل وكأنه يحاكي نفسك ويأخذك الى شواطئ الذكريات ويعيد لحظات الأحبة والأصدقاء والأهل.
في مطلع التسعينيات وفي لقاء صحفي مع الفنان المرحوم رياض foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/? في مجلة ألف باء , أتذكر جيدا انه أجاب على أسئلة كثيرة تخص حياته وأعماله الفنية وعلاقاته مع الأصدقاء في الوسط الفني وعندما سئله محرر اللقاء
عن أفضل فنان عراقي في الوسط الغنائي يمتلك صوت جميل وإمكانيات عالية في الأداء, تمالكه الحزن ( اعني به الفنان المرحوم رياض foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/?foraten.net/? ) ويبدو انه أطلق تنهيدة من الأعماق ولكنه لم يتردد في الإجابة , "قال أنه الفنان قحطان العطار ولكنه بعيد عن الساحة العراقية" . . .
مما يؤسف له أن فضائية تلفاز العراقية في شبكته الجديدة شبكة الأعلام العراقي منذ فترة تأسيسها قبل حوالي أربع سنوات بعد سقوط نظام الطاغية لم ينوه يوما عن الفنان الإنسان قحطان العطار ولم يتكرم بتقديم باقة منوعة من أغانيه الجميلة ولم يفكر بأعداد برنامج لقاء معه وهو في منفاه البعيد الدنمارك لكي يسلط الأضواء على وضعه وحالته الصحية ويدعوه للمجيء إلى وطنه الأم العراق - في الوقت الذي تطبل فيه فضائية العراقية لعشرات من الأغاني التي تفتقر جمالية الإحساس والمعنى لعشرات من المطربين الذين رفدوا سياسة الطاغية بكم هائل من الأغاني الملوثة بالزيف والنفاق والدجل وهذا يدل بلا شك عن مدى احتقار الثقافة الغنائية في العراق لهكذا نجم مبدع رميته يد الأقدار في بلاد الغربة وهو مازال يغني للعراق ويستذكر جراحات العراق وأمهات العراق واهوار العراق وليالي العراق ومواويل العراق............مع تحياتي ارجو أن ينال اعجابكم
منقــــــول