بقلم - محمد خليل الحوري
في ذكرى عاشوراء ، ذكرى إنتصار الدم على السيف ، وذكرى إستشهاد سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين - عليه أفضل الصلاة والسلام ، وذكرى معركة الطف الخالدة التي سطرت فيها أروع الملاحم والبطولات ، وأسمى وأنبل التضحيات من أجل الحفاظ على بيضة الإسلام ، وإعلاء ورفعة كلمته لتكون هي العليا ، فضلا عن محاربة ومقارعة ومقاومة الظلم والظالمين والفساد والمفسدين في الأرض ، وإصلاح أمة النبي محمد – صلى الله عليه وآله وسلم - ومناهضة الخروج على مبادىء وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف ، من قبل القوى المهيمنة والمسيطرة على زمام الأمور ، والمتمثلة في شخص الفاسق يزيد - راكب الفجور وشارب الخمور- عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين - وشدد الله عليه النار والعذاب ، والذي وليّ على رقاب الناس والعباد - ظلما وعدوانا - ليصل حال هذه الأمة إلى أرذل وأحط مستوى في تاريخها ، ولقد إستمر لحقبة طويلة من الزمن ، حيث توارثت زمرة من الطواغيت ، أب عن جد على مدى هذا التاريخ مصير هذه الأمة ومارسوا ظلمهم وطغيانهم ، وأذقوا الأمة شتى صنوف العذاب والتنكيل ، وأفسدوا في الأرض وعاثوا فيهاالفساد ، دون حياء ولا خوف من الله العلي القدير ، قاصم الجبارين ، مهلك المفسدين والظالمين ، ومبيد الطغاة والمستكبرين .
ولقد أرتكبت أبشع أنواع الجرائم والممارسات اللا إنسانية في هذه الواقعة - واقعة كربلاء ـ بحق الحسين - عليه السلام ، وأهل بيته وأنصاره وأصحابه النبلاء - عليهم رضوان الله ، حيث حرموا ومنعوا من شرب الماء المباح وهم بالقرب من نهر الفرات ، وأبيدوا عن أخرهم ، وقتلوا ومثل بهم بأبشع صورة ، يندى لها جبين البشرية جمعاء ، فإرتكبوا أبشع الجرائم بحق أهل البيت – عليهم السلام وصحبهم الأخيار ، وإنتهكوا كافة الشرائع والأعراف وأباحوا المحرمات والمنكرات ، ومن ثم تم التنكيل والإذلال بالنساء الثكالى ، والأطفال اليتامى ، وترحيلهم من بلد إلى بلد على هجن عجاف ، تحت وطأة سياط الجلاد والجوع والعطش ، حتى وصلوا إلى دمشق ، عاصمة الطغيان الأموي حينذاك ، وتعرضوا لأقسى أنواع الإذلال والمعاناة التي لا يمكن للإنسان العادي أن يتحملها حيث كانت - بطلة كربلاء أم المصائب ، السيدة الصابرة الشجاعة - زينب عليها السلام ، على رأس هذه القافلة تواسي الأرامل والثكالى ، وتسلي وتمسح دموع اليتامى وتخفف من معاناتهم وآلامهم ، وتراعيهم وتراقبهم لتقوم بدور المحامي والمدافع والمؤازر عنهم ، حيث لم يبق من الرجال من يقوم بهذا الدور ، إلاّ الإمام زين العابدين - علي بن الحسين - عليه السلام - إذ كان مريضا عليلا ، ورغم معاناته الكثيرة ، وما يعانيه من شدة المرض ، وقساوة السفر الطويل ، ومشقة الطريق عبر البراري والصحاري والوديان والجبال ، وإنه كان مكبلا بالقيود والأغلال ، والتي تركت آثارها على جسده الضامر ، إلاّ إنه تحمل وصبر وقام بدوره على أكمل وجه ، وكيف يمكن لأي شخص مهما كانت قوة جسده ومدى تحمله ، أن يصمد ويتحمل هذه المشقة الكبرى ، وهذه بالطبع حكمة إلهية ، من ضمن الحكم الإلهية الكثيرة ، التي أراد الله بها أن يكرم الرسول الأعظم وأهل بيته ويكرم بها الإسلام والمسلمين ، وخاصة الملتزمين والسائرين على درب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - والأئمة الأطهار عليهم السلام ، ولتكون درسا ونبراسا وعظة ونهجا يحتدى به ، لمعتنقي الدين الإسلامي الحنيف ، حتى ظهور الإمام المهدي - أرواحنا لمقدمه الفداء .
والجدير بالذكر بأن السيدة زينب عليها السلام وأخيها الإمام علي بن الحسين – زين العابدين – عليه السلام ، وبقية العترة الطاهرة التي شهدت أحداث كربلاء ، رغم الكبت والتعتيم وتكميم الأفواه وخداع أهل الشام وتضليلهم ، وذلك بأن أشاعوا بأن الحسين – عليه السلام وأهل بيته – هم من الخوارج وقد قام يزيد – عليه اللعنة - بمحاربتهم والإنتصار عليهم ، إلاّ إنهم إستطاعوا فضح كذب وزيف النظام الأموي ، وخروجه على الدين وإرتكابه أبشع الجرائم في تاريخ البشرية ، وقتله إبن بنت الرسول الأعظم – صلى الله عليه وآله وسلم ، والتنكيل بأهل بيته وأخذهم سبايا من كربلاء بعد مقتل الإمام الحسين – عليه السلام ـ وكوكبة من أنصاره المخلصين – ظلما وعدوانا - إلى الشام ، ومن ثم العودة بهم من الشام إلى مدينة جدهم .
وفي طريق عودتهم من الشام إلي مدينة جدهم - المدينة المنورة - ومرورهم بكربلاء ، لزيارة قبر الإمام الحسين - عليه السلام وقبور أصحابه النجباء ، في ذكرى مرور أربعين يوم على إستشهادهم والذين ضحوا بأرواحهم من أجل نصرة الدين الإسلامي وحمايته ، والذي أريد تقويض أركانه ، لولا وقوف الحسين وأصحابه الأخيار ، سدا منيعا للتصدي للفاسدين والمفسدين ، والمارقين والخارجين على تعاليم وقيم ومبادئ الدين الحنيف ، لقضي على هذا الدين ولم تقم له قائمة ، ولم تعلى له كلمة ، لقد تكبد هؤلاء الصامدين الصابرين ، المضحين بأرواحهم ومهجهم ، أقسى مايمكن أن يتحمله إنسان ، فكانوا مضربا للأمثال ونموذجا ومثالا رائعا للتضحية والفداء ، وبذلك سطروا بدمائهم ملحمة خالدة ، أعادت للإسلام قوته وهيبته ، فكانت كلمة الله هي العليا ، وردت كيد الذين ظلموا في نحورهم وبالتالي إنتصر الدم على السيف ، وسطروا بدمائهم الزكية أروع الملاحم والبطولات عبر التاريخ .
لقد كابد ركب السبايا والأسارى ، من الأطفال والنساء ، من الأرامل والثكالى واليتامى ، مشقة السفر والتعب ، والجوع والعطش ، وذل الأسر والمعاناة والقهر ، وفقدان الولي والناصر والمحامي والمدافع ، عن حرم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانوا نعم الصابرين المؤمنين على تحمل المصاعب والشدائد التي لا يقوى على تحملها الأقوياء الأشداء . ولقد كانت معركة الطف الخالدة ، حافلة بالعبر والمواعظ والدروس ، والتضحيات الشاملة ، حيث ضحى وإستشهد وقتل فيها الأطفال الأبرياء كعبدالله الرضيع ، والشباب كالقاسم إبن الإمام الحسن ، وعلي الأكبر إبن الإمام الحسين عليهم السلام ، الذي جندل وهزم الأبطال من رجال العدو ، وكان خير مثال للتضحية والفداء ومناصرة الحق ، فكان رمزا للبطولة والشجاعة والتضحية والفداء رغم شدة الحر والعطش الشديد ولهيب الشمس الحارقة في رمضاء كربلاء ، كذلك إستشهد في تلك المعركة الباسلة الشيوخ من الرجال والنساء في سبيل نصرة الحق وإعلاء كلمة الإسلام، ورفعة شأنه .
ومن الحكم الإلهية التي أراد الله بها أن تكون نبراسا وطريقا للهداية والتوبة ، فيهدي الله من يشاء من عباده إلي الصراط المستقيم ، ولتكون عبرة وموعظة للأجيال على مدى التاريخ وهي التحوّل الكبير لأحد قادة جيش العدو الأموي وإنضمامه إلى معسكر الإمام الحسين – عليه السلام ، وهو الذي أرسل وكتيبته التي يفوق تعدادها الألف فارس من الخيالة ، ليضايق ويجعجع ركب الإمام الحسين – عليه السلام - المتوجه إلى كربلاء ، ليمنعونهم من مواصلة السير نحو كربلاء ، وهذا القائد الذي أراد له الله – سبحانه وتعالى – بالهداية لينال أعظم الجزاء من عند الله وهونيل الشهادة ، والخلود في الجنة ، هو الحر إبن يزيد الرياحي ، الذي شاء له الله أن يتوب ، ويستشهد بين يدي الحسين ( ع ) وأصحابه الأوفياء ، ويفوز بالجنة والنعيم والرضوان .
وهذه الحكم الإلهية التي جعلها الله لتكون درسا وعبرة لكل إنسان يتأمل ويتفكر ، ويؤمن بالله الواحد القهار ، ولكن هؤلاء القوم الذين أعمى الله قلوبهم وبصيرتهم وأمات ضمائرهموأحاسيسهم ومشاعرهم ، لم يتعلموا من تلك الدروس والعبر ، فتمادوا في قتال إبن بنت رسول الله ، ولم يسمعوا نداء الحق ، ولم يهتموا بنصح وإرشاد ، الإمام الحسين عليه السلام - وبعض أصحابه لهم ، ورغم معرفتهم التامة بحرمة مقاتلة الإمام الحسين ( ع ) ، وبأحقية ومظلومية الحسين ( ع ) وأصحابه الأوفياء ، لكنهم ظلوا في جهلهم وغيهم يتخبطون ، طمعا في زخارف وحطام الدنيا الفانية ، فباعوا دينهم بدنياهم ، وخسروا الدنيا والآخرة ، فكان مصيرهم جهنم وبئس القرار ، لعنهم الله وشدد عليهم النار والعذاب ، وحشرهم مع القردة والخنازير في قعير نار جهنم .
و لاننسى الموقف البطولي والمشرف والشجاع ، والتضحية والفداء والإيثار ، للأخ المخلص الذي أزر وساند ، وضحى بكل غال ونفيس ورفض كل المغريات التي عرضت عليه من قبل رموز النظام الأموي الجائر ، وأبى إلاّ أن يساند ويعاضد أخاه في معركة البطولة والشرف والتضحيات ، ويكون خير مثال للدفاع والذوذ عن بيضة الإسلام ، ومناصرة الحق ، ونبذ الباطل ومقارعته ، والفوز بالعزة والكرامة في الدنيا ، وبالجنان والرضوان في الأخرة ، فكان نعم الأخ ونعم الناصر والمعين .
فهذه المعركة هي من تخطيط إلهي ، أراد الله - سبحانه وتعالى – بها أن تكون نبراسا إلهيا يقتدى به ، وتكريما لشيعة أهل البيت ( ع ) ومحبيهم ، لتكون لهم سلوة وتعزية في التخفيف عنهم والمواساة لهم، لما سيعانيه شيعة أهل البيت ( ع ) وأتباعهم من ظلم وعدوان وسجن وقتل وتنكيل وملاحقة وإبعاد ، ليتذكروا ما كابده وما عاناه أهل البيت – عليهم السلام - أنفسهم ، ليستمدوا القوة والصبر والسلوان ، وليتحملوا مشقة العذاب والمحن والأهوال والتي لا تقاس ببعض مما قاساه أهل البيت والأئمة الأطهار – عليهم السلام ، وهذه حكم إلهيه ، قد تغيب عن عقل الإنسان أحيانا ، وقد يتذمر من الممارسات الغير إنسانية ، والمنافية لأبسط تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف ، الذي قد يتعرض لها في حياته من قبل الظلمة والطواغيت ، وعلينا أن نستقي العبر والدروس من كل ما لاقاه أهل البيت ( ع ) جميعا من قتل ، سوى بالسيف أو بالسم ، وما تحملوه من تغريب عن الأوطان ، والزج في غياهب السجون المظلمة ، وغيرها من أصناف العذاب والتنكيل ، والممارسات القمعية والهمجية ، والتي يمارسها الطغاة والظلمة في كل زمان ومكان وعلى مدى الدهور حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
ولقد تحمل أئمتنا الأطهار - عليهم أفضل الصلاة والسلام - الكثير الكثير من المشقات والمعاناة والأهوال ، والتنكيل والعذاب والقتل والإبادة ، وشتى صنوف الإذلال والقمع من قبل طواغيت وحكام الدولة الأموية الظالمة ، ومن بعدها الدولة العباسية الجائرة والدولة العثمانية ، الذين أذاقوا الأئمة الأطهار والموالين لهممن شيعتهم ، شتى أنواع العذاب والتنكيل ، وكانوا سيوفا مسلطة على رقاب الناس والعباد ، وقتلوا الأبرياء وسفكوا الدماء بغير حق ، ليحافظوا على عروشهم الخاوية ، وملكهم العقيم البالي .
فها هم قد إضمحلت دولهم ، وأفل سلطانهم وجاههم ، ولم تعد الناس تذكرهم ، بينما ظل وبقي ذكر أهل البيت - عليهم السلام وآثارهم شاهدة للعيان ، حيث تشد لها الرحال من كافة أرجاء الدنيا ، لزيارة مشاهدهم وأضرحتهم والتبرك بها ، وهذا خير إنتصار لهم ، وأعظم درجة يمكن أن ينالها هؤلاء المضحين الصابرين ، جعلنا الله على دربهم سائرين ، وعلى نهجهم مقتدين وتابعين وحشرنا وإياهم في دار الجنة والخلود