الدكتور : عماد عطا البياتي
2010.07.12
الكلام ميزة مهمة يمتاز بها الإنسان عن باقي المخلوقات، فالإنسان له قابلية مذهلة على انتاج الكلام وعلى فهم واستيعاب ما يقال من كلام أمامه وهذا ما يساعده على التواصل بفاعلية وكفاءة كبيرتين مع ابناء جنسه.
وتعتمد قابلية النطق عند الإنسان على ضغط الهواء الرئوي الذي ينتج في الرئتين ليدفع الهواء خلال المجاري التنفسية ثم ليحول إلى صوت مسموع عن طريق اهتزاز الأوتار الصوتية في الحنجرة ثم ليخرج الكلام بعد ذلك بأصواته المختلفة وتراكيبه المعقدة بمساعدة لسان المزمار وسقف الفم واللسان والأسنان والفكين والشفتين.
عمليات معقدة جداً ومخلوقات مذهلة ووظائف فسلجية عجيبة ومدهشة سبحان من أبدعها وخلقها فسوّاها فعدلها، (الذي خلقك فسوّاك فعدلك) (الانفطار:7) جل جلاله.
وتفصيل الآيات العظيمة والبينات الباهرة تجدونها في وصف العلماء لآلية الكلام المعجزة التي يمتاز بها الإنسان في كتب الفسيولوجيا الطبية ككتاب المرجع في الفسيولوجيا الطبية لغايتون وهول مثلا، ففي الاطلاع على تفاصيلها تسبيحات تفكرية إيمانية رائعة جداً ترفع درجة من درسها بذكاء واخلاص إلى فضاءات الإيمان العالية إن شاء الله الخالق العظيم.
والأمر لا يقتصر على ذلك فقط بل أن هنالك آليات عجيبة في الدماغ تحكم انتاج الكلام بسلاسة واعجاز باهر وتؤدي الوظائف الحسية التي تمكن الإنسان من فهم الكلام.
فهنالك منطقتان مهمتان في الدماغ تلعب دورا مهما في النطق يسميان "بروكا" و.. "ورنيك" تبعا لأسم عالمان من علماء القرن التاسع عشر درسوا وبحثوا في هذا المجال وساعدوا العالم على التعرف على تلك المناطق الدماغية المهمة في الكلام. منطقة "بروكا" يعتقد بأنها مسؤولة عن انتاج الكلام أما منطقة "ورنيك" فهي المسؤولة عن فهم واستيعاب الكلام.
وتقع تلك المناطق في الفص السائد من الدماغ وهو الفص الأيسر عند أغلب الناس، لكن حقيقة هذه الوظائف الدماغية أعقد من ذلك بكثير وغير معروفة تماما إلى هذا الوقت. (المصدر السابق)
الخلل والمرض والضرر في تلك المناطق الدماغية يؤدي إلى اختلال قابلية النطق وفقدانها تماماً في بعض الأحيان.
شاهدت مؤخراً الكثير من الحالات المرضية والتي يعاني اصحابها من اختلال الكلام. فمريض مصاب بجلطة دماغية فقد على أثرها القدرة على انتاج الكلام، فهو يفهم كلامي واسئلتي ويحاول الأجابة عليها بمشقة كبيرة لأخراج الكلام المناسب لكنه لا يستطيع فيأخذ ورقة وقلما ويحاول كتابة الاجوبة بدلا من نطقها.
وآخر لا يفهم الكلام الذي نقوله له فهو ذاهل ويصعب التواصل معه ويتكلم كلاما لا علاقة له بأسئلة الطبيب، فهو يستطيع النطق وانتاج الكلام لكنه فاقد القدرة على فهم واستيعاب الكلام الذي يقال أمامه.
وآخر.. وآخر.. وآخر.
واعتدنا في هذه الحالات اضافة الى العلاج الطبي أن نستعين بأخصائي النطق الذي يأتي لمقابلة المريض وتقييم حالته ووضع خطة مدروسة لتأهيله من جديد لاستعادة المقدرة على النطق من خلال التمرين على النطق واللفظ والكلام بأساليب حرفية ذكية جدا.
كنت أنظر إلى أخصائي الكلام في بعض الأحيان في الردهة الطبية التي أعمل فيها وأراه كيف يتعامل مع المريض المبتلى برفق ومداراة كبيرة جداً وكيف يجهد في تعليمه وتمرينه على الكلام كما يمرن الطفل الصغير، ويسعى معه جاهدا للفظ قول واحد فقط ويمرنه عليه وقتا طويلا وبجهد كبير وبطرق علمية مختلفة فأجد ذلك مدهشا بصورة كبيرة.
تحدثت مع زملائي الأطباء في الردهة فقال لي أحد أخصائي الطب العصبي بأن هذا الأمر مدهش بالنسبة له أيضا وبأنه شاهد خلال عمله الطبي حالات عجيبة وغريبة جدا لمرضى الجلطة الدماغية الذين يفقدون بعدها القدرة على انتاج أو فهم الكلام. ومن الحالات الغريبة والطريفة في نفس الوقت حكاها لي هذا الطبيب أنه عالج مريضا أصيب بجلطة دماغية افقدته القدرة على انتاج الكلام تحسن بعدها تدريجيا ثم رآه بعد فترة من الزمان فشاهده يستطيع الكلام لكنه يصدر الأصوات بطريقة غريبة جدا، فهذا الرجل المريض سويدي الجنسية من أب وأم سويديين لكنه يتكلم اللغة السويدية لكن بلهجة قد تكون أقرب إلى اللغة الصينية!!!.
يقول تعجبت من ذلك كثيرا وسألت المريض إن كان يعرف اللغة الصينية أو إن كان سافر للصين من قبل، لكن المريض لا يعرف الصينية من قبل ولم يسافر لآسيا ولا مرة في حياته. وجدنا الأمر غريبا جدا ولم نجد له تفسير واضح.
وذكر لي حالات غريبة أخرى زادت من دهشتي وحيرتي في هذا الخلق العجيب.
فهمت من هذا كله أن الكلام نعمة عظيمة جدا من نعم الباري عز وجل وآية عظيمة من آيات الإبداع في المخلوقات المذهلة التي تحيط بنا بل وفي أجساما وخلقتنا. وأدركت نظريا أن اللفظ الواحد الذي نقوله له قيمة كبيرة جدا من حيث أنه لا يخرج من الفم إلا بمساعدة عمليات وآليات وأعضاء وخلايا مذهلة جدا في الدماغ والمجاري التنفسية والحلق والفم.
ونستنتج من هذا أنه يجدر بنا بحكم العقل والمنطق أن نقدر القول الذي نلفظه ونحترمه ونفكر فيه كثيرا قبل أن نخرجه من فمنا بوساطة تلك الاليات والمخلوقات العجيبة المعجزة.
يا سبحان الله الخالق العظيم، أشعر الآن بشدة غفلتي وجهالتي في ساعات وأيام وسنين قضيتها وأنا أهذر الكلام هذرا دون تفكر ذكي فطن في قيمة الاليات والمخلوقات والاستعدادات التي املكها والتي خلقت لي لأقول هذا الكلام واللفظ.
نعم يجدر بي بداهة أن أتفكر كثيرا في هذه الآية العظيمة والنعمة المذهلة وأن أستعمل هذه النعمة بداهة ومنطقا فيما يرضاه الخالق لا ما يسخطه وإلا اكون حقا ناكرا للجميل ومستحقا لتحمل عواقب ذلك عافانا وعافاكم الله.. نعم تذكرت الآن الوصية للقيمة للناصح المؤمن الشيخ المحاسبي رحمه الله في رسالة المسترشدين حيث يوصينا فيقول (وَاصْحَبِ النِّعَم بِالشُّكْرِ). نعم حقا ولله نعمة عظيمة جدا نحن مدينين بشكرها والقيام بحقها.
وإن لم أملك الذكاء والفطنة والمروءة اللازمة لشكر النعمة فيجدر بي إذا أن أخاف من استعمال لفظ قول واحد في الهذر واللغو والمعصية بعد أن أؤمن بصدق ويقين أن الله سبحانه وتعالى قد وكل بي وبكل إنسان ملائكة مختصين بمراقبة الكلام وتدوينه كما حكى القران الكريم، بسم الله الرحمن الرحيم: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق:18)، وكما جاء في تفسيرها في كتب التفسير كتفسير القران العظيم لابن كثير.
وأخيرا ادعوا الله أن يوفقنا لكل خير لنرتفع بعقولنا وقلوبنا وأنفسنا إلى مستوى امتحان الدنيا وأن يجنبا الغفلة والألفة والسذاجة المهلكة، وكل أحبابنا المسلمين.. آمين.
